عين على القلق

القصة القصيرة توجس للكاتب الليبي فتحي نصيب  

القلق شعور  يتمكن من الذات حين يكون إحساس الذات بعدم الأصالة، وبشكل أدق أنه غير قادر أن يكون نفسه، فهو متغرب في العالم اليومي العادي.

ويشير كل من سارتر و باسكال وكيركيغاد أن مفهوم القلق هو دوار الحرية..

ومن منا لم يشعر بهذا من قبل؟

ويمكن تعريف الدوار بأنه تحديداً الانجذاب نحو الفراغ.

و القلق هو واقع الروح … يظهر دائماً كعدم غامض، لكنه يختفي مذ نحاول الإمساك به،

هو لاشيء لكنه قادر على إقلاقنا لأنه وببساطة مرتبط بكينونة الشخص.

وهنا لابد لنا أن نميز الفرق بين القلق و الخوف

فبالنسبة للخوف

 فإن أفضل عدو للإنسان هو المرئي

فالخوف هنا يرتسم بكل وضوح لأن موضوع الخوف واضح

أما القلق هو رعب لا يمكن أن نمسك به

يجيء من اندهاشنا أمام العدم.

 

لكن كيف يأتي هذا الشعور؟

 

هذا الشعور مع كثير من المتعة و الدهشة سنتعرف عليه في قصة توجس

 

العتبة العنوانية :  توجس

لو تأملنا في هذه الكلمة فإننا نشاهد ماتحمله من توتر و قلق

وفي معجم المعاني يفسر بأنه السماع  للصوت الخفي

والصوت الخفي مع التوجس يأتي من ذات الشخص، وهذا الشعور بحد ذاته يتركه في صراعات مع التفكير و الوهم.

القصة القصيرة توجس تحسب على الكوميديا السوداء او كما يسمى بالأدب الساخر.

وتقوم فكرة النص على تقمص الأدوار في اللاوعي، وهذا النمط من الأدوار تسيطر على الشخصية حين يحكمها عامل الفراغ..

الفراغ الذي يجعلها تقلق من أتفه الأشياء لسيطرة اللاشعور

وهذا ماحصل في هذا السرد المشوق و المحبوك بدقة عالية

 

البداية و المطلع

تبدأ مع حالة المشي مع حالة يسيطر عليها الشرود،

ومع الشرود فإن التعثر و الارتطام هو شيء متوقع

وهذا ما حدث مع تفصيل بسيط للشخص الآخر بوصف هيأته  (أصلع و يلبس نظارة سوداء…)

وهذا في الواقع يوجد منه الكثير

ثم الانعطاف إلى مشهد المقهى

والذي تبدأ منه الحبكة

من خلال

١_ وصف الحالة الاعتيادية لجلوس بطل القصة في المقهى

٢_ تصفحه الجريدة من الصفحة الأخيرة

٣_قراءته  لموضوع عن الأجهزة الأمنية في واقع يفرض عليه عدم الاهتمام بهذه النوافذ الثقافية بسبب الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم البلاد

٤_ ظهور الرجل الأصلع ذو النظارة السوداء أمام نظره مرة أخرى

٥_ استلام اللاوعي المبادرة وتركه يتخبط في القلق

٦_ الهروب من ذاته الواعية وبدل مواجهة الموقف تغير الأماكن

وكما يبرر هؤلاء تصرفاتهم بأنهم يهربون بأقل الخسائر ويطبقون المثل

( امش جنب الحيط… الحيطان لها آذان…)

 

السرد هنا يجيد لعبة اللعب على المشاعر من خلال ربط الواقع بشخصية البطل و الذي يعيش في انصراف تام إلى السكون و الصمت و هذا يتجلى من خلال الطريقة التي يجلس بها في المقهى  و انعزاله عن المجتمع الذي يسبب له القلق و الريبة مع أمور اعتيادية

و الفراغ هنا في ذات الشخص يحمله إلى تصفح الجريدة

سابقا من يتصفح الجريدة كانوا من المثقفين و رواد الفكر و الأدب أو العلم

لكن مع شخصية البطل نجده يقلب الجريدة و يتصفحها من الصفحة الأخيرة

تلك الصفحة التي تكون مليئة بالمسابقات و الطبخ و الأبراج و لايوجد فيها مايثير الذائقة

وهذا يأخذنا إلى حالة الهروب التي يعيشها البطل و التي يقال عنها التنفيس بالأبراج و غيرها

 

لكن السكون و الانعزالية يجعله يتابع التصفح حتى في أمور لا تهمه ولنقل و بشكل أدق أنها يمكن أن توتره

وهنا يلعب الكاتب على لعبة المصادفة كما كانت في مطلع القصة

وفي قراءته للمقال الباحث في الأجهزة الأمنية

ومما لا شك فيه أن هذا الصنف من الأشخاص يظنون أنهم يمتلكون الحاسة السادسة

في حين أن القلق هو من يأخذهم  إلى اللاوعي

وتبدأ رحلة المغامرة في الوهم

وهذا ماحصل مع بطل السرد

حيث أنه توهم مراقبة الشخص الأصلع ذو النظارة السوداء له

ثم تصاعد إيقاع الهرب من مكان إلى آخر  والقلق سيد الموقف

وصولا إلى القفلة المدهشة و الصادمة والتي تفصح بأن الرجل الأصلع ذو النظارة السوداء هو أيضاً قلق منه مع فارق بسيط وهو أنه كان يمتلك الجرأة في حين أن بطل السرد يفتقدها

 

الآليات التي منحت السرد  عامل التشويق

١_اللغة البنائية للسرد قائمة على تفعيل لغة الخيال.

٢_ استخدام التناص في قوله اخترت ركنا قصيا من القرآن وتوظيفها مع صفة الانعزالية في النص بشكل مبتكر و غاية في الجمال

٣_ منح السرد لغة انسيابية من خلال الانزياح وأنسنة الأشياء

مثال

منحت ظهري إلى الجدار و هي عادة متأصلة في آخر نفق من أعماق اللاوعي.

هذه الأنسنة تمنح السرد جاذبية و انفتاح في الدلالات و ذلك واضح من خلال الجدار وبراعة أنسنته

٥_استنطاق لغة القلق و جعلها العنصر المحفز للخيال في الحوار و التركيز العالي على المونولوج الداخلي و أحاديث الصمت التي يهرب إليها لبطل السرد

٦_ المفارقة و التي جعلها الكاتب تتصاعد حتى وصلت إلى ذروتها في القفلة و التي أصيب البطل فيها بالصدمة و السخرية من ذاته و طريقة تفكيره

 

إضافة لتركه للمتلقي مساحات من الدهشة والضحك وتأملات في عمق ذات المتلقي يتساءل من خلالها

ماذا لو كنت أنا بطل السرد

هل أتصرف مثله في ظل أنظمتنا القمعية

ترفع القبعة لكل هذا الجمال أ. فتحي نصيب

 

محبتي و طوق ياسمين

قصة توجس     فتحي نصيب/ ليبيا

كنت سائرا في أمان الله سارحا في ملكوته إلى أن اصطدم  بكتفي رجل أصلع يرتدي نظارة سوداء ،ابتسم

لي فابتسمت له ، ومضى كل منا إلى حاله.

دخلت المقهى، اخترت ركنا قصيا ،منحت  ظهري إلى الجدار وهي عادة متأصلة في آخر نفق في أعماق اللاوعي ، طلبت قهوة وشرعت بتصفح جريدة بادئا من صفحتها الأخيرة، قافزا على صفحات المطبخ ووصفات الطعام وصفحة الحكم  وتهذيب الأخلاق التي لا ينتفع بها أحد مرورا بالرياضة والأبراج والوفيات والتهاني..وصولا إلى الصفحة الأولى المكرسة بالكامل بأخبار تبدأ ب( التقى – تلقى-  استقبل ) والتي تجمع على أن رؤساء وملوك العالم كلهم  لا شغل لهم سوى مخاطبته وطلب مشورته والاستعانة بحكمته لحل مشاكل بلدانهم الداخلية والخارجية.

لفت انتباهي مقال مترجم عن أساليب المخابرات العالمية في الحرب الباردة ، حينها دخل الأصلع الذي يرتدي النظارة السوداء ،اختار طاولة بالقرب مني فشعرت بتوجس ولكنني واصلت القراءة عن أسرار (السي اّي ايه) و(الكي جي بي ) وتساءلت في دخيلة نفسي :هل هذه صدفة أن يجلس بجانبي الأصلع ذو النظارة السوداء بعد حادثة ألطريق؟.

قررت صباح اليوم التالي أن أغير المقهى ، فاخترت واحدا آخر يقع في زاوية الشارع الموازي للمقهى السابق ، جلست كالمعتاد موليا ظهري إلى الجدار وأخرجت الصحيفة،عندها دخل الأصلع بنظارته السوداء وجلس إلى طاولة بعيدة موليا ظهره لي ، بدا الشك يتحول إلى يقين ، ففي علم الإحصاء إن الصدفة تتحول إلى قانون  إن تكررت ، تساءلت: ترى كيف يتمكن من مراقبتي وأنا خلفه؟

رفعت الصحيفة لأغطي وجهي ، انتهزت فرصة انشغاله بالحديث مع النادل فخرجت مسرعا بعد أن تركت ثمن القهوة التي لم أشربها.

تكررت المصادفات:مرة في شارع جانبي ،وأخرى في سوق الخضار ،وثالثة رأيته أمامي في طابور أمام مخبز فانسحبت بهدوء ، صرت أتلفت ورائي ، وأتعمد الوقوف دقائق أمام واجهات المحلات التي تعكس صور المارة خلف ظهري.

قررت بعدها ملازمة بيتي لعدة أيام .

في عصر يوم  الجمعة اخترت مقهى يبعد عدة كيلومترات عن منزلي ، قصدت ركنا قصيا وما إن هممت بالجلوس حتى فاجأني الأصلع بنظارته السوداء يترك طاولته ويأتي نحوي طالبا مني بتذرع أن أتركه وشأنه شارحا بتوسل انه مواطن بسيط يحب الرئيس و الحكومة ولديه أولاد.. متسائلا : لماذا تراقبونني ؟ وذهب مسرعا.

  • بقلمي أحمد اسماعيل سوريا

عن ahmed

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: