العربي، والعربية، والعروبة إجتثاث أم إعادة صياغة؟
بقلم :محمد عمر غرس الله كاتب ليبي
رغم العنوان الصاخب الذي أُسبغ على المرحلة التاريخية التي يمر بها العرب “الربيع العربي” إلا إن المدرك يلاحظ أمراً جللاً يحدث (للعربي، والعربية، والعروبة) على عكس ما توحي به كلمة “ربيع”، فنحن نرى (1) تحالف مع (قوى غربية) لتدمير بلدان عربية وإسقاط عواصمها، ونشر القتل والقتال فيها، ونهب أموالها، (2) إنشاء وتمويل وإدارة الفتوى لجماعات إسلاموية دموية ترفض (مفهوم الأمة العربية) وتشن حروب إبادة على المجتمعات المحلية، تكفر علماء الأمة وطوائفها، وتذبح من يقع في طريقها، وتدمر الموروث الثقافي، (3)ضرب، وتجريف، وتجريم لقوى قومية عروبية وسجن واغتيال رموزها، (4) تمويل وتشجيع حركات وجماعات ترفض تسمية (بلدان عربية) بأنها عربية، وجماعات (أثنية عرقية) ترفع أعلام إثنية وتحاكم تاريخ الأُمة وترفض (حرفها القراني)، ترقية لهجات محلية وتقعيدها على حساب (العربية الفصحى)، تشجيع (للشعوبية) وإعطاها تمظهر سياسي وقتالي – (5) وبشكل موازي صياغة أُطر سياسية في المنطقة تحدد وتحتكر ما تسميه (عروبة جديدة) وتحصرها فيها وفي جغرافيتها، وفيما تعمل عليه، وما تقوم به، ووفق ما تراه (عروبة سنية متحالفة مع الكيان الصهيوني وتحارب من يحاربه أو يضيق عليه)، إذاً ما الذي يحدث (للعربي، والعربية، والعروبة)، هل هو إجتثاث أم إعادة صياغة، أم الاثنان معاً، دعونا نرى؟
تاريخياً تمظهرت صورة (العربي كمقاوم للاستعمار، والعربية كلغة مقاومة، والعروبة كإرادة تحرر واستقلال وسيادة) منذ بداية القرن الماضي مع تصاعد الإستعمار الأوروبي للمنطقة العربية عندما هب العرب لمقاومة هذا الإستعمار بأشكاله المتعددة، وكانت (صورة العربي وإرادته) رغم الظروف متعاضدة معاً، في تيار شعبي مقاوم للهيمنة من المحيط للخليج، بالكلمة في (الكتتايب والمحاظر والزوايا) التي قاومت التغريب والغزو الفكري، وبالسلاح والقتال من المحيط إلى الخليج، ومن تخوم حلب إلى عمق الصحراء الكبرى على ضفاف نهر صنهاجة، وكانت روح المقاومة لها رموزها المقاومين الذين قادوا الجهاد المقدس لطرد الإستعمار، أمثال (الشيخ الكنتي والشيخ الأنصاري والشيخ الطاهر اق انتالا) في عمق الصحراء الكبرى وازواد، و(الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ أبو عمامة) في الجزائر، و(الشيخ غومة المحمودي، وعمر المختار، وعلي الشنطة، ومحمد بن عبد الله البوسيفي، وسالم عبد النبي وعبد النبي بلخير) وغيرهم في ليبيا، و(الدغباجي) في تونس، و(عبد الكريم الخطابي) في المغرب، و(سلطان باشا الاطرش) في سوريا و(القسام) في فلسطين، و(أحمد عرابي) في مصر، و(الثلايا) في اليمن، وغيرهم الكثير من أبطال أُمتنا في كل قرية سهل ووادي وجبل.
وكانت سمات هذه المرحلة نبذ، وتحقير التعامل مع المستعمر، وتجريم من حارب وتحالف معه، أمثال “الزواف والحركيين في الجزائر” ومطلينين في ليبيا” وغيرهم من الذين سهلوا وعملوا مع الاستعمار ليهيمن على أُمتنا.
وهكذا سياسياُ وثقافياً، برزت وعُرفت صورة (العربي، والعربية، وإرادة العروبة) بتصاعد حركة التحرر مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع الإستقلال تصاعد مد الوطني الذي قادته القوة التقدمية ، وأخذ مداه مع صعود (عبد الناصر) كزعيم – ومعه القوة العربية التقدمية في الأُمة – الذين حققوا الخطوة التالية المتوجه لكفاح الآباء والأجداد، ،وصنعوا إطارها السياسي ودافعوا عنه، وحقق هذه التيار الإستقلال، والسيادة الوطنية، وطرد القواعد الأجنبية، وأمم النفط، وكافح من أجل فلسطين، وخاض معارك التحرير من جنوب اليمن إلى الجزائر، ومحاولات الوحدة العربية بإجتهاداته (التي أيضا لها سلبياتها وأخطائها)، وكانت لهذا التيار أدواته الإعلامية من (صوت العرب)، و(صوت فلسطين)، و(صوت القدس)، و(صوت الوطن العربي الكبير) …. الخ، وله صحفه، ومجلاته، وصحفييه، وكتابه ومراكز أبحاثه، وهكذا رغم عن بعض الإنتكاسات بقت – وبجدارة – الصورة النمطية (للعربي، والعربية، والعروبة) مرتبطة سياسيا وثقافياً بالمقاومة، وتحرير القدس والقضية الفلسطينية، والسيادة الوطنية، والتحرر، حتى وإن أخفقت، وإنشغلت، وأُشغلت، ووقعت، في تجاذباتها البينية والحروب الأخوية والمكائد، وأيضا نزوات بعض زعمائها وشططهم.
لكن بالمقابل كان يبدو ثمة (عملية متنوعة) تعمل على تغيير (إرادة) هذا (العربي والعربية والعروبة) بشكل ولون جديد، ومحورتها لإتجاه آخر، لتعطي وتنفذ معنى على غير ما عُرفت به من إرادة، وسلوك، ودور وإستقلالية، وعلى غير ما يحقق (سيادتها وافتككاها من الهيمنة)، وعلى غير ما هي عليه تاريخياً في (مقاومة الاستعمار، والتحرر، الوطني، والاستقلال، وإرادة السيادة الوطنية والتحرر، حيث تم ويتم منذ زمن العمل بشكل (متوازي ومتقاطع ومشترك)، بين (قوى غربية) مهيمنة، و(قوى عربية) متماهية بكل ما تملك مع قوى الهيمنة الغربية لتحقيق ذلك.
فمنذ تقريبا منتصف القرن الماضي مع مرحلة التخلص من الإستعمار ظهر أو أُظهر – عن قصد واضح – (طرف عربي) أخر يعادي تيار (التحرر الوطني والسيادة الوطنية ومقاومة الإستعمار، مركزيته القضية الفلسطينية)، ويعمل بشكل أو بآخر (تارة عداوات، وتارة تجنب، وتارة تحالفات دولية)، مسنوداً بعلاقات متينة بالدول الغربية، وتحالف إستراتيجي، وكان ولا يزال بشكل واضح معادياً وغير منسجماً مع مشاعر (التحرر الوطني والاستقلال والإرادة العربية) – حتى وإن جاملها أو تفاداه – والتي كان يعبر عنها كزعيم (جمال عبد الناصر ومن سار على دربه أو قريبا منه ويتبنى نفس المنهج والرؤية)، ومرت الأمة بمغالبات وصراعات تارة على السطح، وأُخرى تحت الطاولة، إستخدمت فيها تلك القوى (القيم الدينية، وأسلحة (التكفير والفتوى، والإعلام، والجماعات الاسلاموية بأنواعها، والمال) كسلاح لتحقيق الهدف.
وبعداً عن تتبع تفاصيل تاريخية كثيرة ومثيرة – لا يتسع المجال لحصرها هنا – بدأً مع حرب الخليج الأولى والثانية، وكأن التصور الأخر الذي يتم العمل عليه لمعنى ودلالة وإرادة (العربي والعربية والعروبة) – المطلوبة والمسموح بها – قد بدأ يتمظهر، وفي خطوط (متوازية)، و(متقاطعة) في الزمان والمكان والموضوع، وبإدارة عارفة وواعية ومدركة، خطوة بخطوة، والمتناغمة مع إرادة الهيمنة الغربية على المنطقة العربية حيث نلاحظ:
أولا: رفض فكرة أُمة عربية بحجة أننا (أمة إسلامية)، وفي نفس الوقت معاداة وخلق معارك داخلية وجانبية للدول والتنظيمات المعبرة عن إرادة التحرر العربي، وتأسيس، ودعم، ونشر، التنظيمات الإسلاموية المعادية لمفهوم (العروبة والأمة العربية)، والقائلة فقط بمصطلح (أمة إسلامية) والرافضة لشيء إسمه أُمة عربية (حزب التحرير الإسلامي – الإخوان المسلمين – وهابية – سلفية – أنصار شريعة … داعش وأخواتها وبناتها … الخ)، والدعم الدائم لتنوعاتها عبر الخريطة العربية، وتغطيتها بالفتاوي، ومدها بالمال، والعمل الإستخباراتي، وتسهيل التسفير والإنتقال، وإنشاء والسيطرة على منظمات إقليمية تعمل كأدوات عمل سياسي (مؤتمر العالم الإسلامي) و ما يسمى (الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين) .. الخ.
حيث تم العمل بقوة لإحداث إنحراف إستراتيجي في (مفاهيم إرادة الأمة وسلوك العربي، ومعنى وإرادة العروبة) وتحويل طاقاتها نحو حروب أخرى غير القضية الفلسطينية مثل (حرب افغانستان)، والعمل (بالمال والفتوى والإعلام وشبكات منتشرة) على شحن الشباب العربي للقتال نيابة عن الغرب ضد الإتحاد السوفييتي، وتم تدريجياً العمل على إبعاد الطاقات العربية عن المعركة المصيرية للأمة في فلسطين، وإعتبار (القتال في افغانستان مقدماً عن فلسطين)، عبر إدارة (لعبة الفتوى) بما يحقق أهداف (اللعبة الدولية) – كنتيجة – و(نشر القتل والقتال داخل الدول العربية ومجتمعاتها المحلية والتحالف مع الغرب عليها)، وإشغالها داخلياً في متاهة التكفير، وشكوك العقيدة، عن طريق (نشر الوهابية وأخواتها – العلنيات والسريات – من قاعدة وداعش وأنصار شريعة، ونُصرة، وأحرار الشام .. الخ)، تحت شعار “جئناكم بالذبح”، مثل (العشرية السوداء في الجزائر – تهييج الحرب الطائفية في العراق – تدمير سوريا وشن الحرب عليها – تدمير ليبيا – شن حرب ظالمة على اليمن، إدخال مصر في أتون عمليات ارهابية داخلية .. الخ)، وتكفير المجتمعات العربية المحلية، ونشر القتال داخلها، وإشغالها داخلياُ، في متاهة (تكفير الشيعة – تكفير الأباظية – تكفير الصوفية – تكفير زعماء عرب – شن حروب على المسيحيين العرب….. الخ).
ثانيا: يستخدم الإعلام كسلاح في صناعة (التصور المطلوب والمسموح به للعربي والعربية والعروبة)، عبر السيطرة على فضاء البث التلفزيوني، والسيطرة على المشاهدين بتقنية ومناهج التأثير الإعلامي القوية والماهرة عبر سطوة الصورة والصوت، وفي صناعة مفاهيم وإدارتها، وتمريرها، وفتح الفضاء العربي للكيان الغاصب ومسؤوليه، والتسويق لسياسات تخدم عملية تنميط إرادة (العربي والعروبة)، ويستخدم في الإعلام بطريقة ذكية عملية إدارة عمليات تجريم القوى التقدمية ورموزها، ، وإعادة قراءة تاريخ المنطقة بطريقة تحط وتقلل من أهمية محاولات التحرر الوطني والاستقلال، ورفض الهيمنة بالبحث عن (مثالبها وسلبياتها وتضخيمها)، ويتم ذلك عبر (السيطرة على الرأي العام)، ومن ناحية أُخرى تسمية هذه القنوات باسم (العربية – العربي) كإحاء له مدلول.
ثالثا: وبخط متوازي تتم عمليات تشجيع (إجتثاث العروبة) في – مناطق معينة – وخلق عدو محلي لها بالقيام بأعمال سياسية وإعلامية ودعم مالي وإعلامي لمجموعات (شعوبية) تعادي (العرب والعربية والعروبة) وترفع أعلام جديدة تحمل (شعارات وثنية)، و ترفض عروبة بلدان عربية، بل وتمنع إستخدام كلمة (عربية) لوصف دول عربية،(وتصوير كأن مشكلة المنطقة فقط لان إسمها عربية)، هذه المجموعات تقوم بتأصيل وإنتاج وكتابة تاريخ ومفاهيم تنفي (عروبة) دول مثل (الجزائر وتونس وليبيا والمغرب) وتم دعم مجموعات في سوريا أيضا، ويعمل هذا المنهج عبر تنسيب بعض القبائل إلى صيغ بعيدة عن (العرب والعربية والعروبة)، ، بالعمل على إخراج مجاميع سكانية من الحرف القراني، وتغريب الجيل الجديد عن معرفة العربية، بتدريسه لهجة محلية، ووصل الأمر إلى تمويل طباعة (القرآن بلهجات محلية في ليبيا والجزائر) التي تاريخياً تعتبر معقل الحرف القراني الذي به قاومت التنصير الكاثوليكي الفرانكوفوني والطلياني.
رابعاً: تم تدريجيا السيطرة على إرادة الجامعة العربية ونقلها من إرادة المقاومة في (لاءات الخرطوم الثلاث) إلى إرادة (مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز) والى شرعنة (إحتلال العراق) وتسويغ تدميره، ووضع (ليبيا) تحت رحمة الناتو ومجلس الأمن ولعبة الهيمنة الدولية وتدميرها، والعمل على (تدمير سوريا) وعزلها، والصمت على (العدوان على اليمن)، وبذلك أصبحت الجامعة العربية وإرادتها تعبير عن (العربي والعروبة وإرادتها) المطلوبة والمسموح بها.
خامساً: تحريف معنى (الجهاد)، الذي يجب أن يكون في فلسطين أو ضد العدو الخارجي، ليصبح الجهاد هو ما يقوم به العربي ضد أخيه العربي، من بيت لبيت ومن قرية لقرية، وتحريف معنى (الشهادة) فالشهيد لم يعد الذي يقاتل ضد الكيان الغاصب، بل هو الذي يقتل أخيه العربي ويقاتل نيابة عن الغرب، وتحريف معنى (الإنتصار) فالنصر ليس على الإستعمار ومشروعه، بل هو نصر العربي على العربي، وتشويه شعار (الله اكبر) – المرتبط بالإرادة والحرية عند العرب تاريخياُ – ليصبح تعبيرا عن الدم المسفوك داخل الأُسرة العربية الواحدة، والمدمر لأمنها وإستقرارها، وهكذا صار (النصر) العربي و(الجهاد) العربي و(الاستشهاد)، و(الله أكبر)، لهم معنى جديد، هو المسموح به، والمراد له أن يتحقق، ويصبح هم الأجيال العربية، وتعبيراً عن الإرادة العربية المطلوبة من هذه الأجيال وطاقاتها.
وهكذا مع الزمن وتدريجيا عبر مجموعة من (الخطوات المبرمجة خطوة خطوة كرائرة عمل)، تم تفريغ محتوى إرادة (المقاومة وإرادة التحرر والسيادة الوطنية) كعنوان مدلول (للعربي والعروبة)، وتحويلها – تدريجياً عبر الزمن – وبمجموعة من الإجراءات إلى (إرادة بيد اللعبة الدولية) تحقق مأربها، وتقاتل في معاركها، وتحقق لها الهيمنة على الأُمة ومقدراتها، فالعربي المطلوب، وإرادته المطلوبة والمسموح بها، هي التي تقاتل (نيابة عن الغرب وبتمويل من أموال الأُمة نفسها)، فالعربي المطلوب، وإرادته المسموح بها، هي التي (تشن الحرب على بعضها البعض داخل البيت الواحد، وتكفر المجتمع، وتستبيح قُراه، وتنشر القتل والتكفير فيها)، (“حنا العرب يا مدعين العروبة” قصيدة خالد الفيصل)، وبالمقابل لا يمكن لها الإقتراب من (القضية الفلسطينية أو المقاومة) ويصبح كل من يفكر في ذلك (كافر)، و(مجرم)، وجب شن الحروب عليه، وإصدار الفتاوي لتكفيره، ووجب خلق معارك داخليه له.
تلكم هي عملية إجتثاث وإعادة صياغة إرادة (العربي، والعربية، والعروبة) التي لا يمكن أن تكون – فقط – حركة تاريخ إنساني (بريئة وطبيعية) بعيدة عن إدارة تدير خطوط ما يحدث بشكل متوازي ومتقاطع ومتداخل، لتحقيق هدف ما، إن الوعي بمسارات ومنهجية ما يحدث للأمة يحتم علينا معرفة إلى أين نسير؟
وكيف؟ وماهي الأدوات والعناصر والمظاهر؟، إن إرادة الأُمة أقوى وأمضى، فالمقاومة والكفاح ديدنها التاريخي منذ حرفها الاول (إقرأ)، ولابد للنخب أن تدرك مايجري والى أين يسير، ماهي العروبة؟ وماهي تجلياتها؟، ومامعنى إرادتها، دعونا نعمل.
والله من وراء القصد