واقع الأسرى المرضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي
د. خالد حامد أبو قوطة
أستاذ ورئيس قسم الإعلام بكلية فلسطين التقنية
يعيش الأسرى الفلسطينيون المرضى في السجون الإسرائيلية أوضاعاً قاسية من الناحية الصحية حيث يتعرضون إلى أساليب تعذيب جسدي ونفسي ممنهج تؤدي حتماً لإضعاف أجساد الكثيرين منهم، ويبلغ عدد الأسرى المرضى داخل السجون الإسرائيلية وفق أخر إحصائية لعام 2019م عدد 312 مريض يعانون أمراض مختلفة ومزمنة وخبيثة تتراوح محكوميتهم من 5 سنوات وحتى المؤبد، وبينهم العشرات بحاجة إلى عمليات عاجلة ورعاية خاصة، بل يساهم الجهاز الطبي الإسرائيلي العامل مع إدارة السجون في مراكز التحقيق بشكل فاعل في تعذيب الأسرى من خلال ما يسمى “استمارة الأهلية” التي تعد للأسير، ويتم وفقها التغطية على الحالة الصحية للأسير المعرَّض للتحقيق، ليتم استغلال وضعه الصحي أو إصابته كجزء من الضغط عليه لانتزاع اعترافات على مرأى ومسمع الممرضين والأطباء الإسرائيليين، كونهم يتلقون تعليماتهم من إدارة السجون وليس من نقابة الأطباء الإسرائيلية.
فطبيعة الأوضاع المأساوية التي تشهدها السجون بشكل عام والأوضاع الصحية الخطيرة بشكل خاص، والتي تندرج في إطار سياسة الإهمال الطبي المتعمد والمبرمج بهدف تفاقم معاناة الأسرى وقتلهم ببطء، أو تحويلهم لأجساد فارغة هشة مريضة وعالة على ذويهم وشعبهم بعد التحرر، فلم يقتصر الأمر على سياسة الإهمال الطبي، بل امتد الإجرام إلى استخدام الأسرى حقول لتجارب بعض الأدوية، حيث كشفت عضو الكنيست الإسرائيلي ورئيس لجنة العلوم البرلمانية الإسرائيلية سابقاً “داليا ايتسك” النقاب في يوليو 1997م، عن وجود ألف تجربة لأدوية خطيرة تحت الاختبار الطبي تجري سنوياً على الأسرى الفلسطينيين والعرب، وأضافت في حينه أن بين يديها ألف تصريح منفصل من وزارة الصحة الإسرائيلية لشركات الأدوية الإسرائيلية الكبرى لإجراء ألف تجربة دوائية عليهم. كما كشفت رئيس شعبة الأدوية في وزارة الصحة الإسرائيلية أمام الكنيست في ذات الجلسة، أن هناك زيادة سنوية قدرها 15% في حجم التصريحات التي تمنحها وزارتها لإجراء المزيد من تجارب الأدوية الخطيرة على الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية كل عام، وتمتد آثار سياسة الإهمال الطبي إلى ما بعد التحرر، وهذا ما أكدته بعض الدراسات العلمية التي أثبتت أن أمراض الأسرى المحررين ذات علاقة بالسجن وأمراضه وسياسة الإهمال الطبي، فهناك العديد من العوامل التي تؤدي إلى تدهور الحالة الصحية للأسرى في داخل السجون وتزيد من نسبة الأسرى المرضى الذين يعانون أوضاعاً صحية صعبة تتمثل فيما يلي:
سنوات الأسر الطويلة: التي أمضاها هؤلاء الأسرى في سجون الاحتلال، فهناك أعداد كبيرة منهم مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً تعرضوا خلالها لضغوط صحية ونفسية كبيرة نتيجة الظروف الحياتية السيئة السائدة في السجون من جانب، وتقدم عمرهم من جانب آخر؛ لذلك فهم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض، فكلما تقدم العمر ازدادت احتمالية الأمراض المزمنة التي تصيبهم، بالإضافة إلى الضغوط النفسية بعد صفقتي “شاليط” و”العودة للمفاوضات” وعدم شمولهما لهم، وكذلك وفاة أكثر من أسير من بينهم “لطفي أبو ذريع” الذي مكث عشر سنوات في مستشفى سجن الرملة، والأسير “ميسرة أبو حمدية” الذي أمضى فترة طويلة فيها، والأسير “حسن الترابي” الذي توفي نتيجة الإهمال الطبي، فهذه الأسباب جميعاً أدت إلى ازدياد أوضاع الأسرى النفسي سوءاً.
سوء التغذية: الناتج عن عدم تقديم الوجبات الكافية من الطعام للأسرى حيث يعانون من نقص حاد في كمية ونوعية الأطعمة المقدمة لهم؛ مما نتج عنها إصابة العديد منهم بضعف جسدي عام وفقر الدم وأمراض أخرى، فعلى مدار أسابيع يقدم أصناف الطعام المتوفرة في الأسواق بكثرة والأرخص ثمناً، وتتكرر أصناف محددة من الطعام بصورة فظة ومملة تؤثر على نظام التوازن الغذائي وتجعل تناولها أشبه ما يكون بالعقوبات، فمئات الأصناف من الأطعمة لم تدخل السجون على مدار سنوات طويلة، وبعض الأسرى ممن قَضَوا سنوات طويلة من حياتهم في السجون لم يَرَوا ولم يتذوقوا طعم عدد من تلك الأصناف المتوفرة في الأسواق بالعادة، ويشمل ذلك النساء الحوامل والمرضعات والأطفال دون الخامسة عشر، إضافة إلى نوعية الطعام الرديء التي لا تتوافر فيه شروط الوجبات الصحية، بالإضافة إلى تقديم الطعام الفاسد إلى الأسرى الذي أدى إلى تسمم العديد منهم. علماً بأن إدارات السجون ملزمة بتوفير وجبة طعام جيدة النوعية وحسنة الإعداد حفاظاً على صحة الأسرى وقواهم، فالمطبخ كان ولا يزال يشغله الأسرى الجنائيون الإسرائيليون، ولم تستجب إدارة السجون لمطالب الأسرى بتسليمهم المطبخ الخاص بهم، ففي السابق كان مسموحاً للأسرى الفلسطينيين العمل في المطابخ الخاصة بهم في السجون، لكن في عام 2000م صدر قرارٌ بعدم السماح لهم بذلك؛ فأصبح الطعام الذي يقدم لهم لا يصلح للبشر ويطبخه الإسرائيليون الجنائيون، على الرغم من أن مواثيق جنيف تؤكد على السماح للأسرى بالعمل في المطابخ وتمكينهم من تجهيز طعامهم. بالإضافة إلى الخلل الكبير في توقيت توزيع وجبات الطعام للأسرى تذرعاً بالاعتبارات الأمنية والإدارية لإدارات السجون، دون الأخذ بالحسبان حق الأسرى في تناول طعامهم في الوقت المناسب وخصوصاً في شهر رمضان.
الازدحام في الغرف: الناتج عن اعتقال الفلسطينيين بصفة مستمرة لتصبح السجون الإسرائيلية تفيض بالأسرى الذين أصبح عددهم يزيد عن الطاقة الاستيعابية لتلك السجون، وتعتبر الغرف التي يحتجز فيها الأسرى الفلسطينيون ضيقة وغير ملائمة وقليلة التهوية وشديدة الرطوبة ومزدحمة، فلم تلتزم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما أقرته الاتفاقيات الدولية التي أكدت على ضرورة التزام الدولة الحاجزة على توفير أماكن الحجز المناسبة صحياً وأمنياً.
وتتألف السجون الإسرائيلية المخصصة لاحتجاز الفلسطينيين في غرف تبلغ مساحتها 2.5 م2، يحتجز بداخلها شخصان وأخرى تتسع قليلاً يحتجز بها من ثلاثة إلى خمسة أشخاص، وأخرى جديدة تبلغ مساحتها 13م2 يحتجز بها من ثمانية إلى عشرة أشخاص، فالمساحة المخصصة لكل أسير في غرف الاحتجاز هي 2.25م2 ، أما الباحات المخصصة للمشي والرياضة فنصيب الأسير الواحد لا يتجاوز 1.6م2 فهي أقل بكثير من المتوسط العالمي المتعارف عليه 6-8م2، ومما يزيد الوضع سوءاً وجود المغاسل والمراحيض في الغرف التي يقضي فيها الأسرى 22 ساعة يومياً ولا يخرجون منها إلى ساحة السجن سوى ساعتين في اليوم فيما يسمى بالفورة، فيسمح لهم بالسير في ساحة تبلغ من80-120م2 فقط في بعض السجون، علماً بأن كل قسم يحتوي من 80 إلى 150 أسير؛ فلا يمكن لأكثر من عشرين أسيراً ممارسة رياضة المشي في وقت واحد وذلك بالحد الأقصى.
انعدام النظافة الشخصية: بسبب عدم التزام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتقديم مواد وأدوات التنظيف اللازمة ومنها الصابون الذي يوزع بشكل غير منتظم وأحيانا كثيرة يكون غير كافٍ، بالإضافة إلى حرمان الأسرى لفترات طويلة من الاستحمام، دون تزودهم بالكميات المطلوبة من لوازم الحفاظ على النظافة الشخصية أو نظافة الغرف، وهذا ما أكدته مؤسسة الضمير في تقريرها بأن إدارة سجن النقب الصحراوي تزود كل 120 أسير بقطعة صابون واحدة يومياً عدا يومي الجمعة والسبت، مما يضطر الأسرى في كثير من الأحيان إلى شراء أدوات التنظيف من إدارة السجون أو طلبها من مؤسسات حقوق الإنسان أو من ذويهم، حيث اكد عدد من الأسرى في كتاباتهم أن بعضهم مكث ثلاثة شهور أثناء التحقيق دون اغتسال أو غسل يديه.
كما تعاني أقسام السجون من مشاكل دائمة في عدم إزالة النفايات بشكل منتظم، وسوء شبكة الصرف الصحي وبدائيتها، مما تسبب في انتشار الحشرات وتفشي الأمراض الجلدية في مخالفة واضحة من السلطات الإسرائيلية لاتفاقية جنيف الثالثة “المادة 29 لسنة 1949م” التي أكدت على التزام الدولة الحاجزة باتخاذ كافة التدابير لتأمين نظافة المعسكر وملائمتها للصحة والوقاية من الأوبئة، وتزويد الأسرى بالماء والصابون لنظافة أجسادهم وغسل ملابسهم.
وتتمثل أساليب حرمان الأسرى من الرعاية الطبية، والمماطلة في تقديم العلاج للأسرى المرضى والمصابين فيما يلي:
1 – الإهمال الطبي المتكرر والمماطلة في تقديم العلاج للمحتاجين له أو عدم إجراء العمليات الجراحية للأسرى المرضى، مما تسبب بأضرار دائمة ومؤقتة على الأسرى نتج عنه أكثر من حالة وفاة.
- – عدم تقديم العلاج المناسب للأسرى المرضى حسب طبيعة المرض، فالطبيب في السجون الإسرائيلية يعمل على تعطيل وتأجيل للحالات المرضية الصعبة للمستشفيات الخارجية، رغم أن من صلاحياته تحويل أي أسير مريض في حالة تستدعي التحويل إلى مستشفى خارجي، إلا أن هذه التحويلات لا تتم إلا في حالة الخطر الشديد حين يشارف الأسير على الموت.
3 – عدم وجود أطباء اختصاصين كأطباء العيون والأسنان والأنف والأذن والحنجرة، والتعامل باستخفاف وإهمال مع الأسير المريض، فقد يُشخِّص الأطباء المريض بطريقة خاطئة، وكثيراً ما تم إلقاء المرضي في غرف العلاج دون طعام وشراب وغطاء، حيث يحضر طبيب عام أسبوعياً ليكشف على عشرة مرضى فقط، فيما يحضر طبيب أسنان أسبوعياً ليعالج ستة أسرى فقط، وهذا يعنى إمكانية امتداد فترة العلاج منذ بداية الشعور بالمرض إلى معاينة الطبيب من شهر إلى ثلاثة شهور في معظم السجون.
4 – عدم توفر الأجهزة الطبية المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة، كالأطراف الصناعية والنظارات الطبية، وأجهزة التنفس لمرضى الربو والتهابات القصبة الهوائية المزمنة، وعدم تقديم وجبات غذائية صحية مناسبة للأسرى تتناسب مع أمراضهم المزمنة كمرض السكري والضغط والقلب والكلى وغيرها، بالإضافة إلى حرمانهم من أدويتهم كنوع من أنواع العقاب داخل السجن.
5 – عدم وجود غرف أو عنابر عزل للمرضى المصابين بأمراض معدية كالتهابات الأمعاء الفيروسية الحادة، مما يهدد بسرعة انتشار المرض بين صفوف الأسرى نظراً للازدحام الشديد داخل المعتقلات، وعدم وجود غرف خاصة للأسرى ذوي الأمراض النفسية الحادة مما يشكل تهديداً لحياة زملائهم.
- – فحص الأسرى المرضى بالمعاينة بالنظر وعدم لمسهم والحديث معهم ومداواتهم من خلف نافذة عليها شبك معدني، فهي فحوصات روتينية وشكلية ويقوم الطبيب بفحص المريض فقط بتوجيه أسئلة له من ماذا يعاني، وإذا كان الأسير بحاجة إلى طبيب مختص عليه أن ينتظر لفترات طويلة قد تمتد لأشهر، فهناك مماطلة وإهمال لإجراء العمليات الجراحية وخاصة المستعجلة، وبسبب مماطلة إدارة سجن “ريمون” في علاج الأسير “رامي حسان” البالغ من العمر ثلاثون عاماً، مما اضطر زملائه الأسرى إلى إجراء عملية جراحية له بأنفسهم وبطريقة بدائية (بواسطة شفرات حلاقة)، إثر تعرضه سابقاً أثناء اقتحام قوى السجن زنازين الأسرى لإصابةٍ بشظايا استقرت في وجهه وإحدى يديه، مما سبب له ألما يمنعه من النوم، رغم تقديمه لعشرات الطلبات بهدف إجراء العملية.
- – افتقار مستشفى سجن الرملة الذي ينقل إليه الأسرى المرضى للمقومات الطبية والصحية، حيث لا يختلف عن باقي السجون في الإجراءات والمعاملة القاسية للأسرى المرضى، ويقع في منتصف الطريق بين مدينتي اللِّد والرملة المحتلتين عام 1948م، وهو عبارة عن قلعة محصنة تحيط به الأسوار العالية، وأنشأته مديرية السجون؛ ليتم معالجة الحالات المرضية الكثيرة والمتنوعة التي يعاني منها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، فقد تم تأسيسه نتيجة لضغوط دولية على الحكومة الإسرائيلية للاهتمام بأوضاع الأسرى الصحية، فلا تستقبل إلا الحالات الحرجة جداً بناء على تقدير طبيب السجن، فهي عبارة عن عيادة صورية وجدت لتضليل الإعلام والمؤسسات الدولية لأن العلاج داخلها شكلي وشبه معدوم، حيث تحتوي على ثمانية غرف بحجم 16م2، وكل غرفة يوجد بها عشرة أبراش مكونة من طابقين، فعند حضور الأسير من سجن آخر لإجراء عملية ولا يتوافر له سرير أرضي فلديه ثلاث خيارات صعبة تتمثل في، أن ينام على البرش المرتفع ويتحمل مشقة الصعود والنزول، أو ينام على الأرض، أما الخيار الثالث فهو أن يوقع الأسير على تأجيل العملية لموعد آخر.
- – تقديم أدوية منتهية الصلاحيات، وإلغاء العمليات الجراحية للأسرى ومراجعة الطبيب المختص لتزامنها مع مناسبة يهودية كالأعياد الدينية والرسمية.
- – كما وتعاني الأسيرات من عدم وجود أخصائي أو أخصائية أمراض نسائية إذ لا يوجد لديهم سوى طبيب عام، خاصة أن من بين الأسيرات من اعتقلن وهن حوامل وبحاجة إلى متابعة صحية أثناء الحمل وعند الولادة، ويتم إجبارهن على الولادة وهن مقيدات الأيدي دون مراعاة ألم المخاض والولادة.
ومن خلال مراقبة الوضع الصحي للأسرى، اتضح أن مستوى العناية الصحية بالأسرى شديد السوء؛ فهو شكلي وشبه معدوم بدليل الشهادات التي يدلي بها الأسرى، وارتقاء الشهداء من بينهم، وازدياد عدد المرضى منهم، وبشكل متصاعد؛ وتقارير المؤسسات المحلية والدولية التي تعنى بحقوق الإنسان وتهتم بشؤون الأسرى، حيث تدين السلطات الإسرائيلية ومسؤولي مصلحة السجون وطواقمها الطبية بارتكابهم جرائم حرب متعمدة بحق الأسرى المرضى وتؤكد أن علاج الأسرى بات موضوعاً تخضعه إدارات السجون الإسرائيلية للمساومة والابتزاز والضغط على المعتقلين؛ الأمر الذي يشكل خرقاً فاضحاً لمواد (29 و30 و31) من اتفاقية جنيف الثالثة، والمواد (91 و92) من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي أوجبت حق العلاج والرعاية الطبية، وتوفير الأدوية المناسبة للأسرى المرضى، وإجراء الفحوصات الطبية الدورية لهم.