تميز وانفرد القصّاص الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس قصّةً عن عالم عصابات نيو مكسيكو السفليّ منتصف القرن التاسع عشر، بالتحديد عن أحد أكثر رجالاتها وحشيّةً، القاتل ذو الوجه الصبيانيّ بيل هاريغان، الذي قتل بفعل الضجر الفتوّة المكسيكيّة بيلساريو فيلاغران.
استخدم بورخيس لوصف هاريغان مفردة «جرذ البيوت» التحقيرية. ومثل بورخيس يستخدم الكثيرون وصف الجرذ للأشخاص الذين يعيشون في الأسفل، أو بعيدًا عن: الأخلاق، والنظافة، والنظام (يُمكن الاطلاع على أوصاف القذافي لمعارضيه بشأن الأخيرة)، بالإضافة إلى استخدامهم مفردة جرذ لوصف كل ما من شأنهِ أن يكون وضيعًا. لكن الحقيقة هي أنَّ الجرذ أكبر من ذلك بكثير، إذ أنَّ هذا القارض يُعدّ قوّة مُهلكةً، ربما فاق عدد ضحاياه ضحايا الأيديولوجيات والحروب حول العالم. (الأرقام موجودة في الكتاب لمن يحب الدخول في تفاصيل الحسابات الرياضيّة لضحايا الطاعون التي يُتهم الجرذ بنقله) وهو أكبر كذلك بسبب كل العزاءات التي قدّمها للبشريّة؛ للمصابين بالسرطانات، والضغط، وأمراض الأعصاب وحتّى الأمراض النفسيّة.
يُعلن المؤلف جوناثان بيرت منذ البداية «هدف هذا الكتاب هو توفير ما يُشبه صورة توضيحية للجرذ في الحضارة والتاريخ البشريين (..) وسيكون هناك اهتمام بالتوجهات نحو الجرذان في الثقافات الأخرى غير الغربيّة»، ولعل هذا الجزء الأخير لم يكن صحيحًا كثيرًا.
نجد الخلاصة في الصفحات الأولى من الكتاب: هناك تشارك بين فصيلة الإنسان والجرذ بوصفهما يُشكلان تطورًا ناجحًا: «كلا الفصيلتين هائلة عدديًا وتملكان قدرة شاسعة على التكيّف مع مختلف أنواع البيئات المتعددة، وهما من ناحية التطور ناجحتان في التنافس مع الأنواع الأخرى».
الجرذّ هو الجوّال الأبدي مع البشر، نشأ في جنوب شرق آسيا، وانتشر عالميًا في أوقات لاحقة. فيما يخصّ الجرذ الأسود (أحد أنواع الجرذان)، فقد وصل منتصف القرن السادس عشر إلى أمريكا الجنوبيّة، وإلى فلوريدا عام 1556 عن طريق الحامية العسكرية الإسبانية، والإنجليز نقلوه معهم إلى مستعمرة جيمس تاون في فرجينيا. الجرذ البني وصل أمريكا منتصف القرن الثامن عشر مع التجار والمستوطنين، وشق طريق إلى داخل أمريكا إلى كنتاكي عام 1812. باختصار، كان الجرذ مرافقًا للفاتحين والمستعمرين حول العالم.
تتبع المؤلف الجرذان في الثقافة منذ كان يُعتقد أنَّ لها خواص علاجيّة: «الماء الذي يُنقع فيه الفأر، أو يُغلى، مفيدٌ لالتهابات الفكيّن، ورماد رأس الفأر المحروق ممتاز لتنظيف الأسنان، وفضلات الجرذان مفيدة لشفاء تساقط الشعر، إلا أنه يبدو خطرًا عندما يكون الجرذ في ذروة شهوته الجنسيّة».
يستمر المؤلف بملاحظة الجرذان، وكيف تحولت صورتها في أذهان الأوروبيين، من حيوان لصّ إلى حيوان قذر، وكيف كانوا في بلاد فارس يعتقدون أنَّ الجرذان يستخدمها الله لمعاقبة الخطاة الذي يسرحون في العالم، منتقلًا بعدها إلى ذكر الجرذ في النصوص الدينية التي يظهر فيها كعقاب حيث أنَّ «الجرذ هو المخلوق الأنسب لمحاربة الجشع والرذيلة»
*- جمع كمًا كبيرًا من النصوص الأدبيّة
ورغم أنَّ المؤلف نسي وصف الجرذان في التاريخ التي يُطلقها الأدباء على من يعتبرونهم دونيين في نصوصهم، مثل بورخيس، غير أنَّه جمع كمًا كبيرًا من النصوص الأدبيّة التي تطرقت للجرذان، مثل رواية «الطاعون» لألبير كامو، ورواية «1984» لجورج أورويل، وفي الشعر قصيدة صائد الجرذان لجون جاي، حيث يرد على لسان صائد الجرذان الذي ترافقه القطط: «من دون القطط سيتاح لنا صيّادي الجرذان أن نحرك أقدامنا، وأن نصبح الحماة الوحيدين لأجبان الأمّة»
أما داخل مُختبرات العلوم، فقد عُدَّ الجرذ بطلًا للعلم، وهذه قضيّة طويلة يبحث فيها المؤلف. «يُعامل العلم الجرذ كحيوان ضارّ، لكنه يُقدمه بوصفه بطلًا للعلم»، فمنذ أول تشريح له في 1621 وحتّى إصدار الخريطة الجينية له في 2004، «أنتج علم الجرذان خلال أقل من أربعة قرون بقليل، معلومات حول كل شيء بدءًا من البنية العضوية والجينية إلى أمراض مثل السرطان ومرض القلب ومن كيفية عمل النظام العصبي إلى المعلومات عن التعلّم والعاطفة والذاكرة». في عصور سابقة، عُد الجرذ رمزًا للرذيلة والشهوة الجنسية، إذ أدت هذه الشهوة الجنسيّة إلى «تكاثره الكثيف ومعدل تطوره السريع؛ وإمكانية توليد أعداد كبيرة من الجرذان من أجل التجارب وبصورة ملتحمه مع حجمه وسهولة التعامل معه يجعل منه حيوانًا مثاليًا للمختبر».
لم يكن لرأس المال أن يُخيّب آمال وجوده حين نظر لهذه التقدمات التي تقدمها الجرذان؛ فأُسست شركات لإنتاج الجرذان منذ منتصف القرن العشرين، ولاحقًا صارت الجرذان حيوانات آليفة منذ بدايات القرن العشرين وحتى تأسيس الجمعية الوطنية للمعجبين بالجرذان (NFRS) عام 1976 ببريطانيا. الفكرة الأساسيّة التي يتوصل لها المؤلف هي أن «هناك [تزامنًا] بين الولع بالجرذان وتطور هجائن منها لعلم المختبرات، فكلا الأمرين ليسا متداخلين فقط بل إن الجرذان الأليفة في الوقت الحاضر تأتي بصورة أساسيّة مما تنتجه المختبرات».
لم يكن الجرذ في المرتبة الأولى في نقل الطاعون، فقد ترك هذه المرتبة للبراغيث، لكن الكل كان يُشير للجرذ عند الحديث عن الطاعون. إذ كان الأطباء والباحثين من آسيا لأمريكا الشمالية وأوروبا يعتقدون أنَّ سبب الطاعون جاء من القذارة والظروف غير الصحية، وجثث البشر والحيوانات النافقة، لكن الرأي الأبرز الذي يؤشر عليه المؤلف ما قاله ابن سينا «إنَّ فكرة خروج الجرذان والفئران من جحورها «لتجلب الطاعون» تعود للفيلسوف العربيّ ابن سينا الذي كان رأيه أنها تنقل فساد العالم إلى البشر، وهذا الرأي السابق للعلم يكاد يكون صحيحًا تمامًا».[17] يفسر المؤلف: «فعُصيّات (بكتيريات) الطاعون تستطيع السكن في الأرض وهي لا تعيش إلّا أيام قليلة في الأجسام العفنة رغم أنها تستطيع البقاء سنوات إذا كانت الأجسام مجمدة. وفي جحور الجرذان المنخفضة درجات حرارتها تستطيع العيش لأشهر وأحيانًا لسنوات». هكذا حافظت جحور الجرذان على بكتيريا الطاعون وخرجت به من الأسفل.
ق/ث