زاوية الشيخ الهاشمي الشريف مفخرة الحركة الإصلاحية بسوف
بقلم البروفيسور: عاشوري قمعون
أستاذ التاريخ جامعة حمة لخضر بالوادي
تزخر منطقة وادي سوف بمعالم أثرية وسياحية رائدة، تعد شواهد تاريخية في الجزائر وفي الصحراء الوسطى للبلاد. ويمكننا أن نسوق بعض النماذج الدالة على ذلك، مثل: غابات النخيل الباسقة المعروفة بـ(الغيطان)، والتي توصف بالأهرامات المقلوبة، إضافة إلى مساجدها العتيقة، ومراكز الزوايا الشاسعة، والأزقة الضيقة، وأحيائها القديمة، الممتدة في التراث المحلي وذاكرة السكان منذ قرون، واصفرار كثبان رمالها الذهبية، المحيطة بالعديد من بساتين النخيل ،كل هذا جعل من وادي سوف سجلا تاريخيا مفتوح الدفتين، ومن أشد المناطق استقطابا للسياح في الجزائر .ونستعرض زاوية الشيخ محمد الهاشمي بن إبراهيم الشريف كأنموذج لهذه المعالم من حيث: ظروف نشأتها، والدور الرائد الذي لعبته لفائدة الحركة الوطنية والإصلاحية في الجزائر.
تشييد الشيخ الهاشمي للزاوية القادرية بالوادي:
كان الشيخ (أحمد بن محمد بن عطية الشريف) قد هاجر من منطقة الزيبان إلى بلاد «الجريد» الواقعة في الجنوب الغربي التونسي، واستقرَّ بـ«نفطة». ثم زوجه الشيخ أبو بكر الشريف التوزري، للة مسعودة بنت صالح المسعود، آل عبد الجبار الأشراف (من نفس عائلة الشيخ المولدي بوعراقية) ، فأنجبت له إبراهيم عام 1813م، الذي شرع في تشييد الزاوية القادرية، وعمره حوالي 32 عاما. وتزوج عدة نساء، من بينهن: أم هانئ بنت الحم، فولدت له محمد الهاشمي سنة 1861م. وقد رجع هذا الأخير إلى أرض الوطن سنة 1886، بعد وفاة والده بحوالي عشر سنوات، وكان نائبا لأخيه وزوج خالته الشيخ محمد الكبير(1852- 1914م)، الذي كلفه بتأسيس زاوية في الوادي( )، فشرع في بنائها عام 1892م، بجوار أخواله بالبياضة على غرار أجداده ليواصل نشاطه الديني والفكري هناك. ثم قام ببناء زاويتين أخريين في كل من تقرت عام 1902م وسوق الوادي خلال سنة 1920م. وقام بالبناء كل من: العربي دردقة، من لزيرق، وعمارة بن بالقاسم علاق، من الرقيقات، الواقعة شرق جامع الفرجان بالوادي. وكان قد عزم على أن يجعل ارتفاع زاوية الوادي 36 ذراعا، بثلاث طوابق، كل طابق طوله 12 ذراعا. وأن يجعل لها صومعة شاهقة بها فنار، يراها القادم من شط نفطة على مسافة بعيدة، غير أن ظروف اعتقاله حالت دون ذلك.
الشيخ الهاشمي الرجل العملاق:
تزوج الشيخ محمد الهاشمي أربع نسوة، من بينهن: خديجة بنت الطيب (النانة) من علقمة بنفطة، فولدت له ابنا سماه عبد العزيز سنة 1898م، وكان توأما لأخته، والابن الثالث للشيخ. وأضحى الشيخ محمد الهاشمي رئيسا للطريقة القادرية بدون منازع في كل من الوادي وتقرت.
ويذكر الشيخ ابن باديس في مقالته (الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي والإصلاح): «كان الشيخ الهاشمي شيخ الطريقة القادرية-رحمه الله- رجلا قويًّا ذكيًّا، واسع الحيلة بعيد النظر. فأدرك بثاقب رأيه أن ما عليه الطرقية من الجهل والجمود، لا يمكن أن يستمرَّ طويلا في عصر العلم والنهوض، وأن المستقبل للعلم لا محالة. فولَّى وجهه شطر العلم، وقَدَّم أبناءه لجامع الزيتونة المعمور، وحبس أملاكه كلَّها على العلم. واشترط في حبسه، أن تعمر زواياه بأهل العلم من أئمة ومدرسين ومتعلّمين. واشترط في أبنائه أن لا حظَّ لأحدهم في الحبس إلاَّ إذا حصل على شهادة العالِمية «التطويع» من جامع الزيتونة، وجعل الإشراف على الحبس لنظارة جامع الزيتونة ..».
تعيين الشيخ عبد العزيز خليفة للطريقة القادرية:
كانَ الشيخ عبد العزيز قد أتقن حفظ القرآن الكريم، ودرس مبادئ اللغة العربية والفقه الإسلامي في زاوية البياضة تحت كنف والده. ثمَّ تاقت نفسه إلى حصد المزيد من العلوم الشرعية في جامع الزيتونة، فواصل تعليمه العالي في تونس سنة 1913م، رفقة أخويه: عبد الرزاق وإبراهيم. وحصل على شهادة التطويع (العالِمِيَّة) بامتياز في شهر يونيو سنة 1923م، ثم رجع إلى الجزائر. وبعد عودته بـنحو ثلاثة أشهر، توفي والده الشيخ الهاشمي في 23 سبتمبر 1923، وتولَّى مشيخةَ القادرية الابنُ الأكبر عبد الرزاق، الذي أصيب بمرض صدري، توفي على أثره في شهر ديسمبر 1923م. وأصبح الشيخ عبد العزيز المؤهل الوحيد لمشيخة الزاوية، باعتباره المتخرج الأول من جامع الزيتونة، فضلا عن كونه مشهورا بذكائه وفصاحة لسانه ووضوح بيانه. كما كان الشيخ أديبا ظريفا لبقا. لهذا تم الإجماع على أن يتولى مشيخة الزاوية القادرية في سوف مع ملحقاتها في كل من تقرت وبسكرة وسكيكدة والجزائر العاصمة. كما يقوم بالإشراف على شؤون العائلة، وعلى أخويه اللذين يزاولان تعليمهما بجامع الزيتونة، وهما: عبد القادر ومحمد الصالح. بالإضافة إلى العمل المستمر في تطوير أملاك الزاوية، وخاصة في غابات النخيل، واستثمار تجارة التمور المزدهرة والمربحة عبر مناطق الجنوب. حتى أصبح الشيخ عبد العزيز يعرف بـ”ملك التمور”. وهذا ما أثار غيظ المحتكرين الأجانب، نذكر منهم المرابي ديبوسي Debussy الذي كان يعمل لفائدة شركة باوB.A.O ، التي عزمت على إبعاده من هذا الميدان، والسطو وحدها على تجارة التمور واحتكارها لنفسها. وهذا ما تم لها فعلا فيما بعد
يقول ابن باديس: «…انتهى أمر الحبس إلى الشيخ عبد العزيز بن الشيخ الهاشمي بمقتضى شرط المحبس بعد وفاة أخيه الأكبر، وتولَّى مشيخة الطريقة القادريَّة. ودخل معه في الحبس أخوه الشيخ محمد الصالح لتحصيله على شهادة العالِميَّة، فكان الرجلان، بما لهما من العالِميَّة، بعيدين عن كلِّ تلك المواقف العدائيَّة التي وقفها شيوخ الطرق الأخرى، أو أُوقِفُوا فيها ضدَّ جمعيَّة العلماء»
تأثر منطقة «سوف» بالحركة الإصلاحية:
يقول الإمامُ ابن باديس: «.. لما ارتفعت دعوة الإصلاح بالجزائر، كان في طليعة رجالها نبهاء من أبناء سوف المثقفين، وعلمائها المستنيرين، فدَعَوا إخوانهم بـ«سوف» إلى كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، والخلف الناصح من أئمة المسلمين…».
انخراط الشيخ عبد العزيز في جمعية العلماء:
في المؤتمر السنوي العام لجمعية العلماء، المنعقد في يوم الجمعة 19رجب/ 24 سبتمبر1937م، وفي اليوم الذي يليه؛ أُعلنَ عن انضمام الشيخ عبد العزيز إلى الجمعية. حيثُ «عهد الأستاذ ابن باديس إلى داعية الإصلاح الأستاذ الطيب العقبي بتقديم الشيخ عبد العزيز بن الشيخ الهاشمي إلى الحاضرين لإلقاء كلمات، فقام الأستاذ العقبي وقال: أيها الإخوان، إنكم تعرفون قبل اليوم الشيخ عبد العزيز شيخًا من شيوخ الطرق. أما اليوم، فيجب أن تعرفوه بأنه جنديٌّ من جنود الإصلاح، وعضو من أعضاء جمعية العلماء. يعمل على نشر مبادئها، ويصدُّ من يريد الاعتداء عليها…». ثم انتخبت الإدارة الجديدة للجمعية، فكان الشيخ عبد العزيز عضوًا استشاريًّا فيها.
استضافة الشيخ عبد العزيز وفد جمعية العلماء لزيارة «سوف»:
دعا الشيخ عبد العزيز وفدًا من جمعية العلماء لزيارة «سوف»، وهم الشيوخ: ابن باديس، ومبارك الميلي، والعربي التبسي، ومحمد خير الدين، وحمزة بوكوشة).
وقد زارَ وفدُ الجمعية قُرى«سوف» في شوال 1356ﻫ/ديسمبر1937م)، وعلى إِثْرِ ذلك، حدثت بها حركةٌ غير عادية، وظهر الإصلاح فيها أقوى ما يكون-كما قال ابن باديس-، وذلك بعد الانقلاب الخطير الذي وقع. فقد تحوّل الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي من شيخ الطريقة القادرية إلى عالم مصلح؛ فجاهر في أتباعه وقومه، أثناء اجتماع الوفد في«قمار»، وقال: إنّ الطُّرُقَ بِدْعَةٌ لا أَصْلَ لها في الدِّين، فحَسْبُكُمُ التّمسّك بالكتاب والسّنّة…» .
ألقى الشيخ العربي التبسي درسًا في قوله (صلى الله عليه وسلم): «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ».
وتبعه الشيخ مبارك الميلي بدرس في قوله (صلى الله عليه وسلم): «قل آمنت بالله ثم استقم». وحَمَلَ فيه على الطُّرُق وشُبهاتها حتى أقنع الحاضرين بأن لا طرقية في الإسلام.
ثم قال الشيخ ابن باديس: لا تأسفوا إن فاتتكم الطرق، فإن لكم طريقة من أجمل الطرق قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾، ثم أخذ يفسر الآية تفسيرًا مُحْكَمًا.
الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي يَعْمُرُ زواياه بالعلم:
يقول ابن باديس: «…أخذ يُكَرِّرُ الاجتماعات في نواحي «سوف» بأتباع زواياه، يحثُّهُمْ على العلم ويرغِّبُهُمْ في التعلم. ويُبَيِّنُ لهم أن الانتساب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني- وهو من أئمة العلم في مذهب أحمد بن حنبل- لا يمنع من العلم والأخذ بأسباب العلم…».
انقلبت «الزاوية القادريَّة» رأسًا على عقب من «زاوية طرقيَّة» إلى «معهد إسلامي» علمي، ومركز يمثل جمعية العلماء في الصحراء.
فبعد مغادرة وفدِ العلماء، وقع احتفالٌ إصلاحي كبير في واد «سوف»، ضَمَّ شُعَبَ «سوف» التسع، وكثيرًا من الأعيان والوجهاء «أكثرَ من عشرة آلاف نسمة»، بمناسبة افتتاح الدروس العلمية بالزاوية القادرية. وقرروا في اجتماعهم هذا، تكوينَ جامعة لشُعَب «سوف» مركزها «الواد»، وكوَّنوا إدارتها. وكان نائب رئيس هذه الجامعة: الشيخ «عبد القادر الياجوري». يقول ابن باديس: «شرع الشيخ عبد العزيز بعمارة زواياه بالعلم، وعيَّن رجلين للتعليم من أبناء سوف المتخرجين من جامع الزيتونة المعمور هما: الشيخ علي بن سعد والشيخ عبد القادر الياجوري». وهما من الأساتذة الأكفاء، المعروفين بغزارة علمهم وبراعتهم في ميدان التعليم والإرشاد.
وقد أثار هذا النشاط المتزايد للشيخ عبد العزيز، حفيظة السلطات الفرنسية بالوادي، وأظهروا مخاوفهم من تسرب أفكار الحركة الإصلاحية إلى المنطقة، فيزعزع كيانهم، ويكذب ادعاءاتهم بأن الصحراء هادئة وآمنة وراضية بحالها.
ومما زاد في تفاقم أوضاع الناس، هو الجفاف الذي ساد المنطقة لعدة سنوات نتج عنه موت أعداد كبيرة من الماشية والإبل، فتضرر بذلك الأهالي. كما أن منتجات التمور لموسم 1937/1938 ضئيلة جدا. وبذلك اشتدت الأزمة وانتشرت المجاعة، مما دفع بالشيخ عبد العزيز إلى أن يقوم من حين لآخر بالتبرع ببعض المواد الغذائية للفقراء. ففي إحدى المرات، ذبح جملين وتصدق بلحمهما مع الخبز. وبعد ذلك، أرسل برقية إلى وزارة الداخلية جاء فيها: خمسة آلاف رجل وامرأة اجتمعوا بالزاوية القادرية بالوادي للاحتجاج ضد أي مساس مباشر أو غير مباشر بالتشريعات الشخصية.
تحول زاوية الشيخ عبد العزيز إلى جامعة إسلامية شاهقة:
كان لنشاط الشيخ عبد العزيز استجابة كبيرة عند شباب سوف أيضا، لأنه اهتم بتأسيس المدارس لنشر العلم والتعليم وفق مناهج جمعية العلماء، فحول جزءا من زاوية البياضة إلى أقسام للتعليم العصري. وفي شهر مارس 1938، وبعد بيع محصول التمور، وظف نقود هذه العملية في تهيئة زاوية الوادي – التي شرع فيها أبوه منذ سنوات خلت – لجعلها جامعة تستوعب أكثر من خمسمائة طالب، جزء منهم يخضع للنظام الداخلي. ولهذا الغرض، جهزت قاعتان كبيرتان للمحاضرات، وعشرين غرفة فردية، شيدت في نفق، أسفل البناء. كما خزن لهم التمور والأرز، واستقدم لها أمهر الأساتذة، مثل الشيوخ: محمد بن حمد، وعبد القادر الياجوري ، وعلي بن سعد. ثم الميداني موساوي فيما بعد. وأضحى التدريس بواسطة سبورة متحركة، كتب في أعلاها: سبورة تبدي العجب ** مصنوعة من الخشب.
كما درس في هذه المدرسة الأستاذ العروسي ميلودي، والشيخ معراج دربال، وعبد المجيد الشريف، وأحمد ميلودي، والصادق بالي، والشيخ صالح نغاق وغيرهم. فعرفت المنطقة بذلك حركة علمية، تعمل على البعث الحضاري، ونشر الوعي الفكري. أثارت مخاوف السلطات الاستعمارية، فحاولت معارضتها وهدمها عن طريق أعوانها الذين سربوا الإشاعات، بأن التلاميذ الذين يزاولون تعليمهم بهذه المدرسة وبهذه الطريقة العصرية – داخل أقسام وعلى المقاعد والمناضد – سيمسخهم الله إلى قرود. وقد انتظر بعض الأطفال الفضوليين عملية تحول هؤلاء إلى قرود من وراء نوافذ الأقسام، لأن بعض الناس كانوا لا يرون التعليم والإسلام إلا في الطرقية.
ورغم ملاحظات السلطات المحلية، إلا أن الشيخ عبد العزيز لم يتوقف، بل واصل مشروعه التعليمي. ولم يعترف بمرسوم 10 أكتوبر 1892، واعتمد على مرسوم 8 مارس 1938 الذي يراقب التعليم في المدارس القرآنية، لأن الشيخ يعتقد أن التعليم في الزوايا غير مراقب. ونستشهد في هذا الصدد بمقال ابن باديس في “البصائر” تحت عنوان “الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي والإصلاح”:
” .. شرع عبد العزيز بعمارة زواياه بالعلم، وعين رجلين للتعليم من أبناء سوف المتخرجين من جامع الزيتونة المعمور، هما: الشيخ علي بن سعد والشيخ عبد القادر الياجوري … و جمع عددا من الطلاب وأحضر لهم مؤونتهم. وأخذت حركة العلم تدب بين الناس والرغبة فيه تنمو في الطلاب.
دعا الحاكم الفرنسي النقيب روبير تيرييه (1937– 1942) Capitaine Robert Thiriet الشيخ عبد العزيز في شأن التعليم وطلب الرخصة، ورد الشيخ بأن الزوايا من قديم الزمان تعلم بدون رخصة. وتكرر الأخذ والرد في الأمر، وفهم أن الإدارة مستثقلة لتلك الحركة العلمية، وتخوف الناس حتى كانت الكارثة…”
نتائج زيارة ميليوت للوادي:
لما شعر الشيخ عبد العزيز بمؤازرة إخوانه، واطمئنانه لانطلاق الحركة الإصلاحية، أراد أن يأخذ نصيبا من الراحة ليعالج سقامه. فقرر أن يسافر إلى باريس لإجراء عملية جراحية هناك، فطلب رخصة السفر إلى فرنسا من الوالي العام للجزائر، ليبو جورج، (1936-1940)Lebeau Georges فتأخرت عنه بعض الشيء، مما اضطره إلى طلب تأشيرة السفر يوم 12 مارس للمعالجة في بسكرة. وعوض أن يسافر إلى باريس، رجع فجأة إلى الوادي يوم 10 أفريل 1938، لأنه علم خلال سفره السريع إلى العاصمة، أن السيد ميليوت، (milliot) المدير العام للشؤون الأهلية وأقاليم الجنوب، سيقوم بزيارة تفقدية إلى الوادي يوم 12 أفريل 1938، لهذا عزم الشيخ على تنظيم مظاهرة احتجاجية على تصرفات السلطات المحلية بحضور هذا الموظف السامي.
لهذا استدعى الحاكم العسكري بالوادي الشيخ عبد العزيز يوم 12 أفريل في الصباح، ليعلمه رسميا أن أي مظاهرة ممنوعة، فرد عليه بأن المظاهرة ستنظم مهما كانت التكاليف. وفعلا، بعد ظهر يوم 12 أفريل، وبمجرد وصول السيد المدير العام، تظاهرت جماهير غفيرة، قدرتها الوثائق الاستعمارية بحوالي 1200شخص، اعتصموا بشباك مقر الحاكم العسكري إلى الساعة الثامنة والنصف ليلا.
وفي نفس الوقت، استقبل السيد ميليوت الشيخ عبد العزيز في المكتب، ودارت بينهما مفاوضات عسيرة استغرقت حوالي ثلاث ساعات، تمحورت حول عريضة السكان، الذين يعبرون فيها عن غضبهم على تصرفات المصالح الاستعمارية. كما قدم شكوى بالحاكم العسكري بالوادي، المتواطئ مع قياد المقرن وشيوخها الذين ضايقوه ولم يفعل لهم أي شيء.
ويمكن إجمال ما جاء في عريضة السكان في النقاط التالية:
– رفع الظلم والتعسف على السكان من قبل الإدارة الفرنسية وأعوانها، خاصة القياد.
– المحافظة على المقومات الحضارية للأهالي، بانتشار التعليم باللغة العربية، واحترام تعاليم الإسلام ورجاله مثل ما تفعله الإدارة مع الآباء البيض، التي تزكي حركتهم التبشيرية.
– مساعدة الفقراء والمحتاجين بالحبوب والغذاء، وطالب بتزويدهم بـ 10 قناطير من القمح.
وافق الموظف السامي على هذه المطالب، وأخبر الشيخ عبد العزيز أنه سيرفعها إلى السلطات العليا. ولكن الأمور تطورت، واشتد الغضب بالشعب. فوقعت انتفاضة في البلاد، أسفرت عن اصطدامات دموية بين السكان وقوات الطوارئ الفرنسية، التي حاصرت المنطقة بحشود ضخمة للقضاء عليها. وقد علقت بالمساجد بيانات، تدعو الناس إلى الهدوء والعودة لمصالحهم. ومن بين ما جاء في هذه المعلقات: “لا تتبعوا هذه الفئة الضالة، وعودوا إلى أعمالكم. إن فرنسا عظيمة وحليمة، إلا أنها تعامل بقوة فعالة عندما تلجئها الضرورة لذلك”.
وبعد هدوء العاصفة، ألقت السلطات الفرنسية القبض على الشيخ عبد العزيز وزملائه: الشيخ علي بن سعد خرن(1908-1974م)، والشيخ عبد القادر بن عمار الياجوري(1912-1992م)، والتاجر المناضل السيد عبد الكامل(1900-1954م) بن الحاج عبد الله النجعي، وزجت بهم في السجن. ويذكر الإمام ابن باديس وقائع كارثة سوف الأليمة بما يلي:
“… عج وادي سوف يوم 18 أفريل بالجنود والعتاد، ورصعت رباه بالمدافع الرشاشة، وأرعدت أجواؤه بأزيز الطائرات، فأوشك أهله ونساؤه وأطفاله وبيوته ونخيله أن تنفسهم قنابل الأرض، أو تمحقهم صواعق السماء. فذهلت المراضع، ووضعت نحو الثلاثين امرأة حملها. وأصبح الوادي على حين بغتة وقد عطلت أسواقه، وسدت طرقاته، ومنع عنه الداخل والخارج، وضرب عليه نطاق شديد محكم الحصار. ألقي القبض على الشيخ عبد القادر الياجوري، والسيد عبد الكامل بن الحاج عبد الله، وسيقوا إلى السجن بقسنطينة. وحشرت جماعات من الناس إلى المركز الإداري، وزج بهم في السجن. ثم حكم على عدد وفير منهم بالنفي والسخرة. كل هذا والناس معتصمون بالصبر، ومنتظرون الفرج … ثلاثة أسابيع ذاق فيها أهل الوادي ما ذاقوا، وطافت فيها الجنود شرقا وغربا وشمالا وجنوبا …
جاءت لجنة البحث للكشف عن أصل الحوادث، والاطلاع على حقيقة الواقع. وساق إليها القياد الناس ليشهدوا. وقد جدوا واجتهدوا في جمع الشهود تحت مظاهر الرهبة والخوف.
قامت لجنة البحث بواجبها بنزاهة وإنصاف، وتحققت أن لا ثورة ولا هيجان. وأن لا شيء دبر ضد الحكومة أو الأمن العام. ففك الحصار عن البلد، وسرح الموقوفون، وقفلت الجنود راجعة. ورفع ذلك الكابوس الثقيل عن الوادي الهادي المطمئن، إلا ما بقي من مظالم بعض القياد”.
سُجن الشيخ عبد العزيز وإخوانه العلماء الأحرار في سجن قسنطينة العسكري بـ«الكُدْيَة»، وفيه ألمَّ به المرض، وصار من حينٍ لآخر يُنقلُ من السجن إلى المستشفى للعلاج. يقول ابن باديس: «آهٍ لو رأيتم الشيخ عبد العزيز الهاشمي، ذلك البطل الجسيم الوسيم، ربيب النعمة والرفاهية، ذا الصوت الجهير والنظرات الحادَّة المشعة، كيف صار اليوم وقد أنهكه المرض، وبرح به النقل بين السجن والمستشفى…».
شيخُ الطريقة القادرية يُسمِعُ رؤساءَ الطرق كلمةَ الحقّ:
انعقد مؤتمر للطرقية في الجزائر العاصمة ما بين 15 و19 أفريل 1938، وكان ممن دعي إليه الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي شيخ الطريقة القادرية في الجزائر وفي كل الشمال الإفريقي يومها، فأعد خطابا ليلقيه في هذا المؤتمر، وكلف شقيقه الأصغر محمد الصالح بقراءته. وقد وقع هذا الخطاب كالصاعقة على شيوخ الطرق الحاضرين، لأنه تضمن فضحهم، وفضح سبب اجتماعهم. وأراد أن يوجه الاجتماع إلى الوجهة الصحيحة التي تخدم الأمة، ولا تخدم الاستعمار الذي خطط لهذا الاجتماع وأمر به. كما تضمن إعلان براءته من الطرقية، والتزامه بمنهج العلماء ونصرته لهم. وقد حاول بعضهم أن يمنع الشيخ محمد الصالح من إكمال قراءة الخطاب “لو لم يحل دونهم تكاثر المصلحين بينهم”
مضمون الخطاب:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المحترمون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تحية من عند الله مباركةٌ طيبة، شرعها الله لتكون عنوانا على الأخوة، ودليلا على الأمان، ومجلبة للبِشْر والإيناس، وطاردة للوحشة والوسواس، واستئذانا من القلوب على القلوب بعد ما تتلاقى الأجسام بالأجسام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شِعار الإسلام الصادق، وعَلمه الخافق، ورَمزه الناطق. أمرنا نبينا، صلى الله عليه وسلم، بإفشائه بيننا لتفشو الرحمة والمحبة، وبتعميمه ليعمَّ التعاون وتَتحقق الحكمة. فالسلام عليكم أيها الإخوان، ورحمة الله وبركاته… عودا إلى بدء.
أيُّها الإخوان: وحسبي في هذا المقام مخاطبتكم بيأيها الإخوان، فإنَّ المعنى المُعظَّم الجامع بيننا، هو الأخوَّة في أسمى معانيها، أخوة الدين وما أدراكم ما أخوَّة الدين، الحبل المتين والعروة الوثقى، والصِّلة المتينة التي تَرِثُّ الحبال ولا تَرِثُّ، وتزول الجبال ولا تزول.
إنَّ العقلاء لا ينظرون من اجتماعكم هذا، إلا أنه اجتماع أخوي ديني. إذ هذا هو الذي تعطيه ظواهره، وتنطق به أخباره وإعلاناته. فلنجتهد أن يكون ما بطن منه، موافقا لما ظهر. وأن يعلم الله من سرائرنا فيه، ما علمه الناس من ظواهرنا. وأنْ يتحقَّق من نتائجه في بعث الأخوَّة الإسلامية ونشرها بين الغائبين عنه، أضعاف ما تتحقق في الحاضرين فيه.
أيها الإخوان: ليس العجيب من أمركم أنْ تَجتمعوا، وإنَّما العجيب أنْ تتفرقوا. وليس الغريب أنْ يتفق المسلمون على الخير، بل الغريب أنْ يَختلفوا على الشر. ولقد – والله – اختلفنا وتفرَّقنا، وتقطَّعت روابطنا وتباعدت قلوبنا، وتشتَّت شملنا. فبدَّل الله قوتنا ضعفا، وعِزَّنا ذُلًّا، وكثرتنا قلة. وأصبحنا سخرية الساخر، ولعنة الأول والآخر، وما ظلمَنا الله، ولكن الحجة البالغة لله علينا.
أيها الإخوان: لقد سررنا – يعلم الله – بالعنوان من اجتماعكم هذا، قبل أنْ نقرأ الكتاب، وابتهجنا بالكلمات، قبل أنْ نفقه المعاني، وفرحنا بالمقدمات، قبل أن نرى النتائج. ثم أراد الله، فشاركناكم فيه بأبداننا وألسنتنا، عسى أنْ نسمع كلمة خير تُرضي الله فننتفع بها، أو نَقُول كلمة حق فنؤدي بها واجبا مع الله ومع عباده المؤمنين. ولقد قرأْنا يوم قرأْنا عنوان (جامعة اتحاد الزوايا)، ففرحنا من جهة، وحزنا من جهات. خفقت قلوبنا خفقة الفرح لكلمة (جامعة) ولكلمة (اتحاد)، لأنَّنا نعلم أنْ حياة الأمم تبنى على أساس هاتين الكلمتين، وإنَّنا – معشر المسلمين – أولى الأمم بالاجتماع والاتحاد.
وحزنا كثيرا لقصور هذا الاتحاد – إن تحقق- على طائفة من المسلمين دون طوائف، ووددْنا لو كان هذا العنوان عاما في مدلوله، شاملا للمسلمين كلهم. ولو كان هذا الشعور بضرورة الاتحاد، كاملا في معناه، ولو كانت هذه الأفكار التي استخدمت لتكوينه، متسعة في تفكيرها، ولو كانت هذه العزائم التي سعت فيه، مجتهدةً في تعميمه، إذا لكان السرور عاما، والفرح شاملا، والنتيجة كلها خيرا وبركةً، وإذا لأرضى العاملون ربهم ونبيهم ودينهم، وإذا لأرغموا شياطين الإنس وشياطين الجن، العاملين على تفريق الأمة، الدائبين في تَمزيقها.
أيها الإخوان: كما أننا لا نَختلف في فضل الاجتماع والاتحاد؛ يجب أنْ لا نَختلف في شيء آخر، وهو أنَّه ليس العبرة بالاجتماع الأجوف الذي تحشد فيه أمواج الخلائق، وتلقى فيه الخطب المحبرة، ولا بالاجتماع الذي تثور فيه الحقود، وتنمو بسببه الضغائن من طائفة من المسلمين على طائفة أخرى، وإنَّما العبرة بآثار الخير الملموسة، ونتائج النفع المحسوسة، التي يثمرها الاجتماع، وتعود على الأمة كلِّها بالرحمة والخير والفلاح.
إنه لا قيمة لاجتماعنا هذا، إلا إذا كان مَعْرِضا للحقائق، تُجلَّى فيه بكل صراحة، وملجأً لكلمة الحق تُلقى فيه بكلِّ حرية. وإنَّه لا مكافأة لما صرفه الإخوان الحاضرون من وقت ومال في سبيل هذا الاجتماع؛ إلا ما يسمعونه من حقائق، ويتبادلونه من نصائح دينية وإرشادات، ويقومون به جميعا من واجب التواصي بالحق والتواصي بالمرحمة، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر. فإنْ لم يكن هذا، فلنعلم أننا غَششنا أنفسنا وغششنا المسلمين، وأسخطنا الله ورسوله وصالحي المؤمنين.
إن هذا الاجتماع سوق أقمناه، ومَعرضٌ نظمناه؛ فكان من أوَّل عيوبه ونقائصه، ما في اسمه من تخصيص النسبة وقصور الإضافة. ثم دعونا الناس إليه ليتماروا ويختاروا، فلننظر لعل مؤمنا موفقا رباه كتاب الله، وهذبته سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ينبذ ولا يختار، وينكر ولا يعرف. ولننظر بم يرجع هؤلاء الإخوان الحاضرون، وبم ينقلبون إلى أهلهم؟ أبغنائم جديدة، وذخائر مفيدة، أم بتفرقة أخرى شديدة، وأخلاق مُبيدة ؟
أيها الإخوان: لو كان هذا الاجتماع دنيويا، عقد باسم الدنيا، ولغرض من أغراض الدنيا، لكان للتخصيص فيه معنى، ولكان للطائفية فيه عذر مقبول، وغرض معقول، لأنَّ الناس فرَّقت بينهم أسباب الدنيا ومصالحها، واختلفت بسببها آراؤهم واختصاصاتهم فيها، فللنجار رأي واختصاص في صناعته، لا يشاركه فيه الفلاح مثلا.
ولكن هذا الاجتماع ديني في معناه ومبناه، وبأسبابه ودواعيه، وليس في الدين حرفة ينفرد أهلها برأي، ولا تجارة ينفرد أصحابها ببضاعة، وإنما هو كتاب الله، منه المبدأ، وإليه المصير. وعليه قامت سُنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعليه استقام هدي سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. وبهذه الثلاثة، قامت الحجة علينا، وبِهذه الثلاثة ندين ربنا، وعلى هذه الثلاثة، يجتمع شملنا، وتتفق كلمتنا. وإلى هذه الثلاثة، يجب أنْ تكون دعوتنا جهارا بلا إسرار، وجمعا بلا تفرق. فما أحق هذا الاجتماع بأن تكون دعوته الجفلى، وأن يكون باسم الأمة الإسلامية كلِّها، لتجتمع على الكلمة الجامعة من كتاب ربها وسنة نبيها. وما أحقه أنْ يزدان بحضور علماء الوطن الجزائري الذين هم زينته ومفخرته.
أيها الإخوان: لا يختلف عاقلان أن معظم ما أصاب هذه الأمة من البلاء؛ إنما جاءها من تفرق الأهواء برؤسائها الدنياويين ، ومن تفرق النسب برؤسائها الدينيين، ولا ثالث لهذين، وقد طال على هذا البلاء الأمد، حتى استعصى على العلاج.
فالواجب على كل من في قلبه مثقال ذرة من الرحمة بهذه الأمة، أو الشفقة عليها، أن يعين على إزالة أسباب هذا البلاء. وإن أحق الناس بالدعوة إلى هذا، هم العلماء. وقد كانت هذه الدعوة، وكانت صارخة مستنفرة، فثقلت على النفوس، وقوبلت من بعضها بالاشمئزاز والتنفير، ومن بعضها بالرد والصد. ولا نخفي الحق إذا قلنا إن هذا الاجتماع، أثر من آثار تلك الدعوة( ).
لكن الحق الذي يجب أن يقال في هذا المقام، هو أن تلك الدعوة في ذاتها حق، لأنها تدعو إلى كتاب الله وهو حق، وإلى سنة رسوله وهي حق، وإلى هدي السلف وهو حق، وإلى هدم البدع التي لابست الدين، وهي موجودة حقا، وكثيرة حقا، وكلها شر حقا، وباطلة حقا. والواجب على كل مسلم، هدمها حقا .
ومن الحق الذي يجب أن يقال في هذا المقام، أنَّ ثقل تلك الدعوة على بعض النفوس، ليس من طبيعة تلك الدعوة، وإنما هو من طبيعة تلك النفوس. والواجب علينا قبل كل شيء، أنْ نفرِّق بين ما هو حق من حقوق الدين، وبين ما هو حظ من حظوظ النفس. وأنْ نُربِّي أنفسنا على إيثار حقوق الدين على حظوظ النفس، وأنْ نُربِّيها على الاتساع والإذعان والرجوع للحق، وأنْ نُربي آذاننا على سماع كلمة الحق، وألسنتنا على النطق بها.
أما والله، أما والله، أما والله، لو أننا روضنا أنفسنا قليلا على هذه الأخلاق الدينية، لكان حظنا من الدين عظيما، ومكاننا من رحمة الله ونصره قريبا. ولكان اجتماعنا اليوم للحصاد، لا للزرع وللتحلية، لا للتخلية، وللأعمال الإيجابية، لا للرسائل السلبية، ولتحصيل ثمرات الاجتماع، لا لتقرير أسباب الخلاف والنزاع .
أيها الإخوان: أنا طرقي وراثة، وابن زاوية عريق في نسبة الزاوية والطرقية إلى بضعة أجداد في التاريخ، وعندي من العلم ما أفرق به بين الحق والباطل على الأقل، ومن المعرفة العامة ما أميز به بين الخير والشر، وبين المقبول والمردود. وإنَّني أدين الله الذي أُومن بلقائه، بأنْ لا طرقية في الإسلام، ولا زاوية في الإسلام، ولا طائفية في الإسلام. وبأنَّه، إنْ كان في هذه الزوايا وهذه الطرق من خير؛ فإنَّ شرَّها يذهب بخيرها، وبأن من آثارها النفسية التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة، أنَّها فرقت كلمة المسلمين. لا أتكلَّم عن غائب ولا عن مجهول، وإنما أتكلَّم عن مشاهدة وعيان، وأعبر عن وجدان لا تزال آثاره في نفسي التي بين جنبي، لولا أنَّ عصمني الله بما وفقني إليه من العلم. وإنَّني أدين الله أيضا، بأنَّ هذه الحركة القائمة، إنما هي ضد البدع المحدثة في الدين. وإنَّها، إنْ أتت، فإنَّما تأتي على الباطل، أما الحق فهو ثابت بإذن الله، محفوظ بحفظ الله.
وإنني فهمت ولا زلت أفهم من أقوال القائمين بها وأعمالهم ومراميهم، أنها ليست موجهة لهدم الزوايا، وإنما هي موجهة لإصلاحها.
أيها الإخوان: إن موقف الأمة الجزائرية في حاضرها، موقف الممتحَن المرهف، لم تُبْتَلَ من قرون بمثل البلاء الذي تعانيه الآن. لا أقول العسر والمجاعة، والقحط والغلاء، وإنما أريد مضايقة الحكومة لها في دينها ولغتها. فأنتم تعلمون سلسلة هذا البلاء من إقفال المساجد في وجوه العلماء إلى قرار 8 مارس الماضي، فهل أنتم مدركون لمغزى هذه القرارات؟ إنها حرب لدينكم ولغتكم، وإنها فتنة ستقضي على التعليم الديني والعربي بهذا الوطن. وإنها لا تخص فريقا دون فريق. وإنَّ الأمة مِن ورائكم ترقب أعمالكم في هذا الاجتماع، وموقفكم مِن هذه المسألة الخطيرة، التي هي مسألة الأمة كلها، وكلمتكم الفاصلة فيها، فانظروا ما أنتم فاعلون فيها، وما أنتم قائلون( ).
إنه لا دافع لهذا البلاء النازل، إلا بتضامن الجهود على دفعه، واجتماع الكلمة لتفريقه، وتناسي الأغراض والحزازات، وإحياء سنة السلف في الاتحاد، وتراص الصفوف إذا نزلت بالإسلام كارثة، أو حزبه أمر.
أيها الإخوان: إن الآية المرفرفة على اجتماعكم هذا هي قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ، فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء/59) وإنها فصل الخطاب في هذا الباب. فانظروا هل هي حجة لكم أو عليكم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
نفيه إلى تونس ووفاتُهُ:
أبعد عام 1953 إلى تونس، ونزعت منه المواطنة الجزائرية. وحاول بعدها الرجوع إلى الوادي بدون جدوى. وعند اندلاع الثورة الجزائرية، أيدها ماديا ومعنويا، حيث وضع أمامها محلات ودكاكين من أملاكه، تستعملها الجبهة في أغراض شتى كإيواء المجاهدين، وأبناء الشهداء، وإسعاف المرضى، ومكاتب إدارية وغيرها. واستمر الشيخ في تدعيم الثورة حتى تحصلت الجزائر على استقلالها، ففتح من جديد زاويته بالوادي لتكون أول معهد إسلامي، تدرس فيه مناهج وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية. غير أن الشيخ لم يعد إلى أرض الوطن بعد أن طال به المرض، ووفاه الأجل المحتوم في أول يونيو سنة 1965م، ودفن في تونس. .
ومما سبق، نؤكد على أن الزاوية القادرية بالوادي ظلت من الشواهد الأثرية والتاريخية التي ساهمت بقسط وافر في إبراز عظمة هذه الأمة وتاريخها التليد. وهي ما انفكت تبذل كل نفيس لجميع الأهالي والمستضعفين، بغية الذود عن حماهم، والدفاع عن مقومات أمتهم العربية، وشخصيتهم الإسلامية. وقد استعان الشيخ عبد العزيز الشريف بأمهر العلماء المشهود لهم بالكفاءة العلمية، والشجاعة الأدبية، والثبات في المواقف الإنسانية، وذلك لتطبيق برنامجه التعليمي في ميدان التوجيه الديني السليم، والوعظ والإرشاد، وتعليم النشء قواعد اللغة العربية الصحيحة، وأصول الفقه الإسلامي الأصيل، والخالي من شوائب الجاهلية. وليس أدل على ذلك مما بذله الشيخ عبد العزيز من عطاء في سبيل إحداث نهضة علمية وفكرية رائدة، للمحافظة على شخصية المجتمع من التفسخ والذوبان. وقد جهز قاعتين كبيرتين لا زالتا لحد الساعة شاهدتين على ما قدمه الشيخ عبد العزيز لإخراج الملإ من بوتقة الجهل والأمية السائدة آنذاك، وتخليصه من المعتقدات الفاسدة، التي ألصقت بالإسلام جورا وبهتانا. وقد دفع بكل سخاء، حريته ومنزلته السامقة وأمواله قربانا، حتى يواكب مجتمعه التطورات المستجدة التي برزت في العالم الأوربي المتمدن.
وهكذا نستطيع أن نجزم أن الزاوية القادرية قد عملت ما في وسعها لاستثمار ما حصدته من أموال لخدمة المسلمين كافة، ولا أدل على ذلك من قول مؤسسها الأول الشيخ الهاشمي:(هذه أموال المسلمين، فلتعد بالنفع على المسلمين).