إن الله لا ينزع العلم إنتزاعا من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بقبض العلماء , فقدت الجزائر والامة الاسلامية قاطبة صباح أمس الاثنين علما من أعلامها وحجرا أساس من أعمدتها , الفقيه العلامة سيدي محمد بن مالك القبلاوي, شيخ مدينة عين صالح وعلما من أعلام منطقة التديكلت بل والجزائر قاطبة.
الراحل محمد بن محمد المختار بن سيدي محمد بن مالك , من مواليد 1921 ببلدية أقبلي (60 كلم عن أولف ولاية أدرار ),عاش يتيم الاب منذ صغره فتكفلت والدته بتربيته فأحسنت التربية والسلوك والاستثمار في ما أنشأت , والشاهد كونه ينحدر من عائلة معروفة بالعلم ، أنجبت العديد من العلماء الذين تفرقوا في ربوع الصحراء ,وحتى خارج الوطن ناشرين لعلوم الدين وهاهي مساجد ومعاهد وجامعات الوطن والامصار العربية والاسلامية فضلا عن الادارة الجزائرية شاهدة على ما نقول, لكونها تزخر بخيرة أبناء وأحفاد وأقارب وتلاميذ هاته العائلة العريقة عراقة جنوبنا الكبير .
الراحل وككل أبناء جيله بدأ بتعلم القرآن الكريم في سن مبكرة بمسقط رأسه، ببلدية أقبلي على يد الشيخ الطالب محمد بن عبد الرحمان بن مكي بلعالم، فحفظ القرآن الكريم وأخذ عنه أيضا مبادئ الفقه، كما أخذ علم التجويد عن خاله الشيخ محمد عمار بابا بن مالك, وفي سنة 1947 إنتقل للتعلم بالمدرسة الطاهرية ببلدية سالي دائرة رقان ولاية أدرار، فتعلم بها الفقه وقواعد اللغة العربية ومبادئ علوم الشريعة الإسلامية، على يد شيخها الشيخ مولاي أحمد الطاهري الإدريسي، حيث دام تعلمه بها أكثر من سبع سنوات، ومنها تحصل على الإجازات حيث أجازه شيخه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية, كما ساهم رحمه الله في نشر المذهب المالكي عن طريق تأسيس مدرسة فقهية ليلية بعين صالـح ، وكان ذلك علـى إثر احـدي الــزيارات العلمية التي كان يقوم بها الشيخ مولاي أحمد الطـــــاهري الإدريســي لهـذه المدينة مصحوبا ببعض تلاميذه، ففي هذه الزيارة طلب بعض أعـيان عين صالح من الشيخ مولاي أحمد أن يبقي معهم أحد تلاميذه ليعلمهم وأبناءهم ما هم في حاجة إليه من أمـــور الدين الإســـــلامي فوقــــع اختيار الشيخ على تلميذه المترجم له الشيخ مَحمد بن مالك، لكــن هذا الأخيــــر عندما علـــم أن شيخه يريـــد أن ينصبه للتدريس بهذه المــدينة أعرب لشيخـــه عن رغبته في ملازمتــــه وعـــدم مفارقته ليستزيد من علمه لحاجته إلـــى ذلك، إلا أن الشيخ رحمه الله طمأنـه بأن ما يصبو إليه ويرغب فيـه من العلم سيتحـــــقق له وهو يدرِّس في عين صالح.
وما كان لفقيدنا إلا فتح أبواب هاته المدرسة في أواخر سنة 1953, بدعاء وبركة شيخه رحمه الله ورحم كل علماء الوطن , فكانت منارة علمية تربوية متنوعة شملت العقيدة وفقه العبادات وفقه المعاملات وعلم الميراث إلى جانب علم النحو والصرف، من خلال دراسة المتون كالعبقري والمرشد المعين وأسهل المسالك والرحبية، وأيضا المصنفات كمختصر خليل ورسالة ابن أبي زيد القيرواني أما علم القواعد فيُدرس من خلال الاجرومية والألفية والملحة , وكان رحمه الله يفسر لتلاميذه قصيدتي البردة والهمزية اللتين كان يتم تفسيرهما مع إعراب أبيات كل منهما تدريبا للتلاميذ والطلبة على الاعراب.
وكغيره من علماء الجزائر المخلصين فقد تعرض فقيدنا لمضايقات شديدة من قبل السلطات الاستعمارية في عين صالح خاصة خلال ثورة التحرير, حينها كان عداء المستعمر للمدرسة وشيخها غير خفي شأن جميع المدارس العربية الإسلامية في أنحاء القطر الجزائري , ومما ضاعف عداء المستعمر لهذا الصرح والقائم عليه إفتتاح المدرسة قبيل إندلاع ثورة أول نوفمبر بسنة أو أقل مما أدى إلى وضعها وشيخها تحت الرقابة المستمرة لسلطة الاستعمار, التي كانت(السلطة الاستعمارية طبعا) تتوجس شرا من مثل هذه المدارس، لما يكون قد بلغها عنها أنها تعمل ضد الوجود الفرنسي بالجزائر, على خلفية ما تدرسه من مواضيع من بينها باب الجهاد الذي كان يدرسه الشيخ من خلال المتون والمصنفات وهو ما لا يتوافق وأهداف وطموح الاستعمار , وهو ما جعل الإدارة الفرنسية شديدة العداء لمدرسة الشيخ ,ورغم هاته الصعاب إلا أنه إستطاع رحمه الله أن يكون من الثلة التي حملت مشعل العلم ورفعت شعار نشر المعرفة في ربوع منطقة عين صالح , كما تخرج من مدرسته وعلى يديه عدد لا يستهان به من الأئمة والوعاظ ومدرسي القرآن الكريم , الذين وظف البعض منهم أئمة في المساجد مثل الشيخ محمد الزاوي والشيخ محمد عبد الله لمغربي رحمهما الله ,والشيخ الطالب عبد العزيز والطالب أحمد غرمه وناجمي محمد صويلحي والشيخ أحمد ناصر والشيخ الطالب عبد الله عبد الله وغيرهم, كما وظف آخرون في مناصب معلمي القران الكريم مثل الطالب أحمد بابه والطالب محمد الغول والطالب أحمد وانس والطالب قدور لمغربي …وغيرهم , كما توجه بعض تلاميذ الشيخ إلى تأطير المدارس التربوية الابتدائية والمتوسط والثانوية, كما ترقى بعض الطلبة الى مناصب سامية في الدولة الجزائرية , ومنهم الاطباء والمهندسين والجامعيين والاطارات بالادارة العمومية ,على غرار أبنه البار الاستاذ أحمد بن مالك أحد إطارات وزارة الشؤون الدينية والاوقاف ومديرها قطاعها بولاية تنمراست وعضوا المجلس الاسلامي الاعلى , وهذا ليس بغريب عن تكوين الزوايا والمدارس القرآنية الخالدة ,جنازة الفقيد غدا الثلاثاء على الساعة السادسة مساءا بمصلى حفرة الركب قصر المرابطين بعين صالح ,رحم الله الفقيد وجزاه خيرا على ما قدمه للجزائر والامة العربية والاسلامية .
عماره بن عبد الله