محطات من مساهمة وادي سوف في الثورة الجزائرية 1954-1962. الجزء الثاني
بقلم: البروفيسور محمد السعيد عقيب
جامعة الوادي
أهم المعارك والاشتباكات التي وقعت ضد القوات الفرنسية في وادي سوف خلال الثورة التحريرية
شهدت الثورة التحريرية الجزائرية 1954-1962 مشاركة جل جهات الوطن منذ اندلاعها في الفاتح نوفمبر 1954 ، حيث عملت قيادة الثورة على تعميم النشاط العسكري على نواحي الوطن شرقه وغربه جنوبه وشماله ، ورغم تفاوت حدة وحجم الانخراط في العمل الثوري بين المناطق منذ انطلاق الثورة ، إلا أني أسجل كما سجل الكثير من دارسي تاريخ الثورة انطلاق العمل الثوري ، وقيام العديد من المناوشات والمعارك بمنطقة وادي سوف ، فكيف كان مسار الثورة ، وما هي أشهر المعارك بهما ؟.
سجلت وادي سوف حضورها ومشاركتها في الثورة التحريرية منذ شهر نوفمبر 1954، ورغم التأخر لأيام محدودة ومعدودة مقارنة ببعض المناطق التي انطلقت فيها عملية استهداف جنود الاستعمار وثكناتهم ومصالحهم. وأول معركة واشتباك بين جنود جيش التحرير الوطني وقوات الاحتلال الفرنسي كانت في معركة حاسي خليفة بتاريخ 17/11/1954.
وتعود ظروف أسباب وقوع هذه المعركة لذهاب مجموعة من المناضلين إلى ينبوعي أحمد لأخذ قطعة سلاح من المقرن ، فضرب لهم وعدا بتسليم البندقية إليهم في اليوم المتفق على تحديده ، وفي اليوم الموالي ذهب إلى السلط الاستعمارية أخبرهم على الموعد المتفق عليه ، وهكذا اكتشف أمر وجود المجاهدين بالمنطقة ، وفي ليلة اليوم المحدد قصد المجاهدين : شعباني بلقاسم وعبد الباري عمار وبشير العائب وصوادقية صالح وبلالة بشير وريغي عبد الرزاق ، وعند اقترابهم من المنزل لاحظوا جنودا يراقبونه فتقدم العائب بشير وخرج المعني رافضا تسليمهم المتفق عليه متنكرا للوعد، فتقدم صوادقية صالح فسلم له ورقة تحمل انذارا بتسليم القطعة في ظرف ثلاثة أيام ، وانصرفت المجموعة في طريقها لقرية سيدي عون ، وعند وصولهما لها التقوا بمجموعة من المناضلين وقدموا لهم توجيهات عامة خاصة بالتهيئة للتجنيد في صفوف الثورة ، وواصلوا طريقهم نحو قرية السويهلة قاصدين شخصا آخر لتسليمهم قطعة سلاح ، لكن فجاءتهم قوات العدو ووقع اشتباك تبادل خلاله اطلاق الرصاص ، واستطاع المجاهدين التمكن من مهاجميهم وغنم 4 بنادق وقصدوا صحن الرتم وتحصنوا بغوط النخيل على الالتقاء به من طرف المجاهدين الذين كان عددهم 13 جندي ، واتفقوا على الذهاب إلى حاسي خليفة هربا من قوات العدو ، ولكن قوات العدو التي كانت تطاردهم تمكنت من تتبعهم ، وحاصرتهم ، ووقعت المواجهة بين الطرفين ، ووقعت المعركة . وأسفرت عن نتائج الحاق المجاهدين لخسائر بقوات العدو ، قدرها البعض بما يقرب من 70 بين قتلى وجرحى وجرح من المجاهدين شعباني بلقاسم ، وتمكن المجاهدون من الفرار عبر المسلك الموصل جهة نقرين والجبال التي تليها.
ولقد أعقبت هذه المعركة التي اعتبرت جس نبض ووقعت دون التخطيط لها بل كان هدف الدورية هو جلب السلاح الموجود لدى بعض سكان المنطقة ، معارك أخرى منها: معركة صحن الرتم( قرب الجديدة) 15 مارس 1955 ، ومعركة هود شيكة الشهيرة أيام 8-10 أوت 1955.
وتم القيام بهذه المعركة إثر قيام قيادة الثورة بالمنطقة الأولى ( الأوراس) شيحاني البشير وعباس لغرور والأزهر جدري باجتماع يوم 29 جويلية 1955 في ناحية وادي هلال قرب موسى البهلول بجبل الجرف ، وكان القرار ضرورة توجه فصيلة من المتطوعين إلى وادي سوف ، بهدف جمع الأسلحة والمال للثورة وتجنيد بعض الشبان ، مع التعليمة بعدم الدخول في معركة مع العدو إلا إذا كان ضروريا ، ضم جنود جيش التحرير الوطني وطلب منهم القيام بمهمة نحو وادي سوف ، وطلب منهم الترشح للمهمة برفع الأيدي لصعوبة المهمة بالنسبة للتوقيت والظروف المختلفة ، وتم التطوع من عدد تراوح بين 29 و43 جنديا أغلبهم من أهل المنطقة ، وعين على رأسهم حم الأخضر ( عمارة محمد الأخضر) وهو ابن المنطقة يعرفها ويعرف أهلها ، وانطلقت الدورية على الأرجح يوم 02 أوت نحو وادي سوف ، وقد وصلوا صباح يوم الإثنين الموافق 8 أوت 1955، وكان مسارهم من جبل الجرف مرورا بالعكيكة ثم جبل نقرين حيث ضربوا ثكنة للقوات الفرنسية بعد منتصف الليل وانتقلوا إلى بئر بوطينة ، ثم واصلوا طريقهم إلى الدبدابة في القيلولة ، وحلوا في الصباح الباكر من يوم الثامن أوت بجديدة قمار في غوط رحومة بن خليفة بن مبارك ، الذي يبعد عن غوط شيكة بحوالي كيلومترا واحدا، واستضافهم السيد إبراهيم رحومة ، فبقوا نهارهم في الغوط المذكور وأرسلوا إبراهيم رحومة إلى قمار ليأتي ببعض المؤونة ويتفق مع السيد حميه على إحضار الذخيرة – الرصاص-الذي كان عنده في الغوط الذي يملكه بالجديدة ، وفي المساء عند حلول الظلام توجهت دوريتان في اتجاهين مختلفين الأولى تتكون من اثنين من الثوار والثالث رجل شعبي من أهل البلد ، والثانية تتكون من ثلاثة من الثوار ومعها أيضا رجل شعبي ، الأولى شرقا نحو المقرن ، والثانية غربا إلى قمار ، فعادت الدورية الثانية ببعض العتاد المتمثل في اثني عشرة بندقية حربية وحوالي ألف خرطوشة و600 ألف فرنك قديم ، أما الأولى فلم تعد بشيء ، وسلمت الأشياء للقائد محمد الأخضر، ويبدو أن ظروفا وأخطاء قد وقعت حيث اكتشفتهم قوات وعيون العدو ووردت روايات عدة في كيفية اكتشافهم ، وتتبع أثرهم ، ومهما كان فإن الثوار صاروا على علم باكتشافهم منذ يوم 8 أوت وأن عليهم الاستعداد ، إما بالانسحاب وإما المواجهة ، وقد قرر محمد الأخضر الحل الأخير ورفض الانسحاب ، لأنهم لم يحققوا الهدف الذي جاءوا من أجله .
وفي صباح يوم 09 أوت 1955 رأى الثوار تقدم القوات الفرنسية من الجهة الشرقية على متن سيارة الجيب التي كانت تحت قيادة بعض الفرنسيين وبرفقة جنود القومية، فقام الثوار بضرب هاته السيارة فقتل فرنسيان واثنان من جنود القومية وهرب الباقون، وتذكر بعض الروايات أن حصيلة القتلى بين القوات الفرنسية والقومية أكثر من هذا، وكان سلاحهم أول غنيمة للثوار الذين استشهد أحدهم في هذه المواجهة الأولى.
ولم يكد الثوار يسترجعون أنفاسهم حتى شاهدوا العدو يتقدم نحوهم من جديد من الجهة المعاكسة، لأن خطة القوات الفرنسية تقتضي وضع المجاهدين في حلقة تحيط بهم من الشرق والغرب ، وهما الاتجاهان الصالحان للإمداد من مدينة الوادي ، فشاهد الثوار تقدم قوات العدو من الجهة الغربية قادمة من طريق بسكرة – قمار، فأمر القائد محمد الأخضر الجنود بالهدوء والثبات ونظم صفوفهم وتمركزهم فأمر المجاهد عبد المالك قريد ” المدعو الجنة ” بالتوجه مع خمسة من الثوار نحو الغرب ليقطعوا على العدو طريق العودة عند اشتداد المعركة ، أما الآخرين فقد وضعهم في كمائن وأمرهم بانتظار الأمر بإطلاق النار، كان العدو يتألف من فصيلة كاملة من الجنود القومية تحت قيادة ضابط فرنسي وعددهم يتراوح مابين 24 و27 فردا، تركهم محمد الأخضر يتقدمون إلى نقطة يصبحون فيها محاطين بجنوده من جميع الجهات وتركهم يتقدمون نحو الصباط باستدراجهم ، ثم هاجمهم وقد طوقهم ممن كل الجهات، واستطاع الثوار القضاء عليهم إلا واحدا منهم استطاع الفرار، وكانت هذه المرحلة مربحة للثوار لغنمهم السلاح والقضاء على قوات العدو قتلا وذبحا للبعض الآخر حتى يقتصدوا في الرصاص ، واستشهد من المجاهدين واحدا وهو سي علاوة ، وجرح اثنان. فارتفعت القدرات القتالية للثوار ومعنوياتهم وأصبح السلاح لديهم متوفرا.
وإثر الخسائر التي لحقت بقوات العدو تم الاستنجاد والحشد للقوات من أجل القضاء على الثوار ، الذين أدركوا ضرورة التحصن في مكان آخر أشد مناعة حتى يستطيعوا المقاومة أطول مدة ممكنة ويحتمون فيه من لفح الحر وغارات العدو فلجأوا إلى هود شيكة ، وقسم محمد الأخضر الثوار إلى قسمين القسم الأكبر وجهه إلى غوط شيكة ، والبقية تركها في غوط مجاور لها من الجهة الشمالية الغربية ، وكان الهدف من ذلك تشتيت قوات العدو وشغله ، ذلك أنهم اكتشفوا أنهم قدموا بقوات كبيرة من الجهتين الشرقية والغربية، عبر طريق الوادي – البهيمية ( حساني عبد الكريم حاليا)، ومن مطار قمار وكان يقود القوات الفرنسية العقيد باطيون، وقد استعملت قوات العدو أنواعا من الأسلحة في هذه المعركة والمدافع والطائرات عندما عجزت قواته عن التقدم وزعزعة الثوار من أماكنهم، والتحمت المعركة بضرواة بين الطرفين وحرص القائد حمه لخضر على التنسيق بين الجبهتين، وبقيت المعركة على أشدها حتى الليل، وانكشف غبار المعركة عن استشهاد ستة أو سبعة، أما عدد الجرحى فقد بلغ 11 جريحا، أما خسائر قوات العدو فكانت عالية في الأرواح والعتاد كإسقاط طائرتينن و عدد يقارب 500 بين قتيل وجريح – حسب روايات المجاهدين عبد المالك قريد وعمارة محمد بن داسي اللذين شهدا المعركة- ورغم اقاررنا بأن العدد يبدو مبالغ فيه بالنظر لكل الظروف المحيطة بالمعركة ، لكن نقر بأن خسائر العدو كانت كبيرة في الأرواح والعتاد، وقد سارع الثوار بالانسحاب من غوط شيكة نحو غوط خماد ، وحملوا معهم الجرحى بغرض نقلهم بالتوجه بهم شمالا لمركز القيادة اتجاه الأوراس، حيث حملوا على الجمال رفقة 8 مسبلين لكنهم استشهدوا جميعا تحت قصف الطائرات، في مكان يدعى المقبلة، أما الباقون من الثوار فقد اتجهوا إلى قرية لضاية التي تبعد 8 كلم عن غوط شيكة وكان عددهم 29 وكان الليل يحرسهم لأن سلاحهم أوشك على النفاذ ، ولم تكد تشرق الشمس يوم 10 أوت حتى ظهرت طائرات العدو الذي كان يتتبع تحركهم من مكان لآخر بواسطة عيونه الخبيرين في تتبع الأثر، فتحصن الثوار بغوط غزالة فاستهدفتهم قوات العدو بالقنابل ولم يعد من منفذ وسيبل للثوار فاستشهدوا الواحد تلو الآخر واستشهد القائد حمه لخضر بضربة من طائرة عند الزوال، حيث نفذت ذخيرة المجاهدين وانتهت المعركة، وخيم الصمت على غوط غزالة وغوط علي بن نصر الذي لجأ أليه بعض الثوار وهو يبعد حوالي 7 كلم في اتجاه المقرن، وكانت خسائر الثوار، هامة حيث استشهدوا كلهم إلا ابارهيم رحومة الذي أسر ، والسيد بن داسي الذي جرح وظن أنه قد مات فأخدته أيضا قوات العدو، وعبد المالك قريد المدعو ” الجنة” الذي استطاع الاختفاء في غوط علي بن نصر حتى حلول الليل خرج متوجها شمالا حتى وصل بئر مالح الدود، فأرشده الأعراب للطريق ومر ببئر محمد بلحاج، ومنه نحو أم الضلوع ناحية وادي بربار وهناك وجد رفاقه في جيش بقيادة عباس لغرور وكان ذلك يوم 13 من شهر أوت ثلاثة أيام بعد المعركة وفي 17 من أوت وصل لوادي غرغر حيث كان بشير شيحاني وعندما سأله عما جرى لرفاقه في سوف قال له إنهم جميعا دخلوا الجنة بأحذيتهم ومنذ ذلك الوقت أصبح قريد عبد المالك معروفا باسم ” الجنة”.
كلمة الباحث
إن تتبعنا لمسار الثورة التحريرية في ناحية وادي سوف يمكننا تسجيل مايلي انخراط أهل المنطقة في مسيرة النشاط الوطني كان من فترة الحركة الوطنية ، من خلال المساهمة في الإعداد للثورة بالمال والسلاح والرجال ، والشاهد في ذلك تلك الدفعات التي أرسلت نحو الزيبان ونحو الأوراس ،ناهيك عن إن مناضلي المنطقة لم يتأخروا عن المشاركة في كل المراحل السابقة للإعداد لاندلاع الثورة ، وكان المجاهد عبد القادر العمودي عضوا ممثلا في لجنة الـ22 التي أشرفت على كل الخطوات التي خططت وحددت كيفية وتاريخ تفجير الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954 ، كما إن اندلاع الثورة التحريرية انخرط العديد من المجاهدين والتحقوا بقيادة الثورة في نواحي المنطقة الأولى ( الأوراس ) خاصة الناحية الثالثة ، وساهموا إلى جانب إخوتهم في تلك المنطقة في العديد من المعارك من أشهرها معركة أم الكماكم بتاريخ أواخر جويلية 1955 ومعركة الجرف بتاريخ 22 – 29 سبتمبر 1955، وبعد هيكلة مؤتمر الصومام أصبحت المنطقة الرابعة من الولاية السادسة ، في حين شهدت المنطقة العديد من الأعمال الثورية التي تمثلت في المعارك والاشتباكات والكمائن وحتى الأعمال الفدائية ، التي ألحقت بقوات الاستعمار الفرنسي الكثير من الخسائر، اضافة الى مساهمتهم من خلال النظام المدني في تموين الثورة بالمال والرجال ، وبروز العديد من القادة خلال الثورة التحريرية ومنهم: الجيلاني بن عمر- محمد لخضر عماره(حمه لخضر)- الطالب العربي قمودي- السعيد عبد الحي …وغيرهم عليهم رحمة الله ، كما ساهمت منطقة وادي سوف في التمسك والدفاع عن الوحدة الترابية للوطن بعدما لعبت فرنسا في المفاوضات على وتر فصل الصحراء لكن إصرار قيادة الثورة ، ومساهمة أهل المنطقة والصحراء عموما في رفض المشروع الفرنسي أفشل تلك المساعي والممارسات التي قامت بها فرنسا. ولذلك شارك أهل المنطقة في المظاهرات المضادة لمشروع فصل الصحراء في 5 جويلية 1961.
وصفوة مساهمتي هي كلاما لأحد قادة الثورة الشهيد العقيد عميروش الذي قال: إذا كنا اليوم نجاهد ونحن على هذا المرتفع فإننا بعد الاستقلال يجب أن نصعد إلى مرتفع أعلى منه لحراسة استقلالنا وحريتنا من الضياع ومن وصاياه: إن الجزائر ستستقل بحول الله ، أما أنا فلن يدركني الاستقلال ، ولذا فإنني أوصيكم بالاتحاد صفا واحدا لمحاربة أعداء الوطن ، وحراسة مكاسب الثورة عاشت الجزائر.