الثّقافة المحليّة بين واقع الغزو العولمانيّ وإسعافات المواجه:  الشّارقة… أيقونة الثّقافة العربيّة وباعثة الحضارة الإسلاميّة

  • العولمة تخترق نسيج مجتمعاتنا ثقافيّا:

لا مراءَ في أنّ تماسكَ الأمة و إشعاعها الحضاريّ يبقى رهين محافظتِها على ثوابتِها باعتبارها تشكّل عناصر بقائهَا و استمراريّتهَا بل و عنوانَ هويّتهَا و كينونتهَا، فبالثّقافة وحدَها نمتلكُ زمامَ القيادةِ الفكريّةِ و نظلّ في مقدّمة الرّكب الثّقاقيّ العالميّ نُغذّي العقولَ بما نُنتجُه من معرفةٍ و علمٍ، و نزرعُ فيها شغفَ العطاءِ و البذل اللاّمحدود بدل تعبئتِها بنزعةٍ استهلاكيّةٍ مدمّرةٍ من شأنهَا أن تصنع إنسانًا هامشيًّا مفرغًا من مقوّماتِ هويّتهِ، لا يدين بالولاء لا لوطنٍ و لا لأمّةٍ و لا لدولةٍ، ولاءهُ فقط لمن يزوّدهُ بآخر إصداراتِ الهواتف المحمولةِ و أحدثِ الماركاتِ المسجّلةِ في عالم السيّاراتِ و العطورِ و الملابسِ، و متى تحلّلنا في بحر المادّة ستتّسع الفجوة بيننا و ثقافتنا المحليّةِ، فلن ننبش حينئذٍ عن دفين كنوزنَا المخبوءةِ في متون كتب التّاريخِ، أو تلك التّي تضمّها بين دفّتيْها متاحفُ يفوح منها عبق الماضي و لا يصلُها بالرّاهن سوى عمليّات الإحياء و البعث و التّجديد التّي تتعهّد بها دورُ الثّقافة من خلال تنظيم جملة من المعارض و المهرجانات تذكّر بعهد العزّة و الشّموخ… نعم بكلّ أسف و مرارة في الحلق نقولها: لم يبق لنا نحن العرب -صنّاع الثّقافة العربيّة الإسلاميّة و منتجوا المعرفة الإنسانيّة لما يزيد عن ثمانية قرون- غير أن نتفيّأ أطلال ماضينا المجيد و أن نذرف الدّموعَ مدرارًا على عهدٍ قضى و ولّى، كيف لا و قد فرّطنا بدورنا السّياديّ بمحض إرادتنا، و رزحنا تحت كلاكل الجمود سنينَ عددًا، و الأدهى و الأمرّ أنّنا استمْرأْنا العبوديّةَ للآخرِ، و الذّوبانَ في الآخرِ، و نشرَ ثقافة الآخرِ! حتّى أنّنا لم نجرؤ على التّساؤل يوما بيننا و بين أنفسنا: أين نحن من كلّ هذا؟ ما مصير حضارتِنا، ثقافتِنا، هويًتِنا، تاريخِنا…؟ أنستسلم لواقع الغزو العولماني؟ هذا الماردُ الذّي اخترق مجتمعاتِنا من الدّاخل و دفعها إلى الشّتاتِ و الفرقة، و عمل على الإطاحة بعناصر المقاومة و التّحصين لديها خدمة للسّيادة المركزيّة العالميّة و سعيا دؤوبا لتوحيد الثّقافة على وجه البسيطة ليتمّ إنتزاع الخصوصيّة الثّقافيّة و محو الهويّة الذاتيّة تحطيمًا لكلّ الثّوابت الدينيّة و الفكريّة و الأخلاقيّة فتتساوى كلّ الرّؤوس و تمّحي بصمة العرب المسلمين في نحت الحضارة و تأصيل الكيان.لكن أنّى للرّؤوس أن تتساوى؟ و كيف لآلة الغرب و مدّها التّكنولوجيّ الهائل أن تسحق معالمَ حضارتنا و أن تطمس ملامح ثقافتنا مع وجود من هم بالمرصاد لها؟

سمو الشّيخ الدّكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشّارقة يحمل لواء إحياء الحضارة الإسلاميّة والذّود عن مكتسباتها:

صحيح هم قلّةٌ أصحابُ الضّمائر المتيقّظة، من تأخذهم الحمية والغيرة  على تاريخهم، لكنّهم على قلّتهم و ندرتهم، استطاعوا أن يكرّسوا مشروعا ثقافيّا ضخما يحفظ هويّة العرب و إنجازاتهم الجمّة في شتّى الميادين، بل و يعمل على خلق ديناميّة في صلب هذا الموروث حتّى تلتقي أصوات الماضي و الحاضر في تواشجٍ و تنصهر في ذات البوتقةِ تحت شعار “الأصالة بوّابة العبور إلى المعاصرة”، و بذلك لا يشكّل التّالدُ من فنوننا نشازًا في إطار المشهد الثّقافيّ العالميّ المتجدّد. و يعود الفضل في إرساء أسس هذا المشروع و دعائمه إلى صاحب السموّ الشّيخ الدّكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشّارقة، فبرعايته و توجيهاته الرًشيدة تمّ بعث جملة من الهياكل و المؤسّسات لإنجاح ما تمّ عقد العزم عليه، من ذلك مثلا إدارة متاحف الشّارقة التّي تمّ تأسيسها سنة 2006 كدائرة حكوميّة مستقلّة تهدف إلى “توفير أرقى المعايير في مجال المتاحف للزّائرينَ و المواطنينَ و المقيمينَ في الإمارة، و ذلك من خلال تنظيم المعارض المتخصّصة و إطلاق برامج تعليميّة إضافة إلى نشر الأبحاث. ” و الجدير بالذّكر أنّ إدارة المتاحف تضمّنت 16 موقعا في الإمارة لتغطية جلّ الفنون و الثّقافة الإسلاميّة و علم الآثار و التّراث و العلوم و الأحياء المائيّة و تاريخ الإمارة و المنطقة ككلّ، ما يرسّخ هويّة الشّارقة و يعلي من قيمة تراثها الثّقافي و الطّبيعي على الصّعيدين المحلّي و العالميّ.

الشّارقة قبلة المثقّفين و المبدعين العرب:

و استمرارًا لدورها الرّيادي و التّفاعلي في رفد المشهد الثّقافي المحلّي و العربيّ و دعما للمواهب الشّابة في الدّولة و خارجها و تعزيزا لمكانة المبدع عربيّا و عالميّا، حرصت دائرة الثّقافة و الإعلام منذ تأسيسها (1981) على تنظيم جملة من البرامج الثّقافيّة الشّهريّة و السنويّة التّي تتضمّن ورش عمل و دورات فنيّة و معارض و مهرجانات و أمسيات و محاضرات و ندوات و ملتقيات شعريّة و قصصيّة و روائيّة و عروض مسرحيّة، و من أبرز الملتقيات التّي تنظّمها الدّائرة و تحظى بصيت عالميّ:
مهرجان الفنون الإسلاميّة و ملتقى الخطّ العربيّ، و هما يحظيان بأهميّة بالغة لأنّ من بين الأهداف المنشودة لهاتين الفعاليّتين: دفع الغرب إلى النّهل من موروثنا الثّقافي و الفنّي كالخطّ و الزّخرف و الهندسة و المعمار لتكون نقطة الانطلاق و العبور نحو الإبداع و المعاصرة في استعادة لدور الزّعامة الثّقافيّة، فللبدايات ألق تفتقده النّهايات
ضف إلى ذلك مهرجان الشّارقة للمسرح الصّحراوي، مهرجان الشّعر العربيّ، مهرجان الشّارقة للشّعر الشّعبي، أيّام الشّارقة التّراثيّة… و القائمة تطول
كما ترصد الدّائرة العديد من الجوائز في حقول الإبداع كافّة:
جائزة الشّارقة للإبداع الأدبيّ ، جائزة الشّارقة للتّأليف المسرحيّ ،جائزة الشّارقة للثّقافة العربيّة اليونسكو ،جائزة الشّارقة للبحث النّقدي التّشكيليّ ،جائزة الشّارقة للشّعر العربيّ وجائزة الشّارقة للتّأليف المسرحيّ المدرسيّ .و بعيدا عن الأنشطة و الفعاليّات التّي ترقى بإمارة النّور إلى مصاف عاصمة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، فإنّ المتمعّن في طبيعة الحياة الاجتماعيّة و المعماريّة و الثّقافية في المنطقة، يلحظ بما لا يدع مجالا للشكّ أنّها تحتفي بالمعمار الإسلاميّ و لا تتوانى عن تكريس جماليّاته في هويّة الإمارة، ليس فقط في بناء المساجد ذات الطّراز الإسلاميّ الأمويّ و الأندلسيّ، بل أيضا في كيفيّة تصميم الأسواق و الدّوائر الرّسميّة و حتّى بعض المساكن، و ما يميّزها من قباب و زخارف نباتيّة و هندسيّة. فالأبراج الشّاهقة المترامية الأطراف هنا و هناك لم تحجب هويّة المكان و روحه الإسلاميّة الخالصة، بل هي تقف شاهدة على أصالته و عراقته من ناحية، و تطلّعه إلى المعاصرة و مواكبة مختلف المستجدّات في مستوى فنّ العمارة من ناحية ثانية، و كأنّنا بالتّشكيل المعماريّ في الشّارقة يقدّم رسالة للعالم مفادها: “لا هويّة لمن ينبتّ عن جذوره و يذوب كليّا في الآخر، و لا خير فيمن يغمض عينيه عن الجمال أنّى كان مأتاه.” فالإمارة بذلك متصالحة مع ماضيها و حاضرها.
                                                                روبورتاج :  أسمهان الفالح

عن khairi

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: