“شذرات ثقافية” اللهم اجعلني مع صاحب النقب

“شذرات ثقافية”

اللهم اجعلني مع صاحب النقب”


بقلم الأستاذ: بن علي محمد الصالح
الإخلاص في المفهوم الشرعي هو القصد بالفعل إلى الله دون غيره والامتثال لأمره، والابتعاد عن الغايات المشبوهة كالعجب أو طلب مدح من الناس أو جزاء منهم، ويمكن أن نحيل مفهوم الإخلاص وفي نفس السياق ودون ابتعاد عن معناه الأول، بأن يخلص الرجل في عمله، ويخلص في خدمة والديه وجيرانه وعامة الناس، وأن يخلص لقيمه ومبادئه ووطنه، وأن يخلص فيما يتقرب به إلى خالقه.
وعندما يعشش الإخلاص في قلب الرجل سينطق بدلا عنه، وسيتجسد في أقواله وأعماله بطريقة آلية، أي أن يتحول الإخلاص إلى سلوك فطري وعفوي، لكن في كامل الوعي ومنتهى القصد، وعلى علم بما يفعل، وإدراك تام بما يقصد.
ونقيض الإخلاص هو الرياء وفعل الشيء ليراه الناس ويناله الإعجاب ويطاله الإطناب، والنتيجة ذهاب الأجر وإحباط العمل، وفضلا عن ذلك إفساد المثل وضياع القدوة، فالمرائي تتجسد فيه الصورة السلبية التي تنفر الناس وتزعزع ثقتهم فيمن يرونه المثل والنموذج، ليسقط سريعا لو أبدى سلوك عجب أو خيط رفيع من الرياء.
في حين يمثل الإخلاص الدعوة الصامتة التي تتسلل إلى قلوب الناس، والتي تخاطب عقولهم بسلاسة فتقنعهم ثمرة الإخلاص، وكما يقولون: “ما خرج من القلب دخل القلب”، ولا علاقة بين الإخلاص والجاه والسمعة أو السلطة فقد يتعلق الناس بأبسطهم لكنه أشدهم إخلاصا، ويكبر في عيونهم أكثر من حاكمهم، وقد يبهر حاكمهم بإخلاص بسيطهم، مثلما حدث للقائد “مَسلمَة بن عبد الملك بن مروان”.
جاء في “عيون الأخبار” لابن قتيبة: أن حصارا حاصره المسلمون للروم، بقيادة “مَسلمة” وطال هذا الحصار وتعسّر النصر على المسلمين، فعمد رجل من عرض الجيش إلى إحداث نقب ـ أي ثقب ومنفذ للدخول ـ في الحصن فدخله ففتحه الله عليهم.
ـ فنادى مَسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد.
ـ فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء.
ـ فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير.
ـ فقال له: أنت صاحب النقب؟
ـ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مَسلمة فأخبره عنه، فأذن له.
ـ فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثا: ألاّ تسوّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو.
ـ قال: فذاك له.
ـ قال: أنا هو.
فكان مَسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.
فبالإخلاص والإخلاص وحده ارتقى رجل بسيط من عرض الجيش وأصبح قدوة لقائده وأميره، وتمنّى أن يجعله معه يوم القيامة، فمن أراد الرقي والجاه والرفعة في الدنيا والآخرة فعليه بالإخلاص في حركاته وسكناته.

عن amara

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: