الثوابت الوطنية ..قراءة دستورية

الثوابت الوطنية ..قراءة دستورية

بقلم د. جوادي الياس

أستاذ محاضر بالمركز الجامعي تمنراست

فكرة الثوابت الوطنية نقول تعززت في التعديل الدستوري الأخير في 2016 وبالتحديد في ديباجة الدستور، والتي تعد جزءا منه  ومدخل له، وتتضمن الديباجة عددا من المبادئ، أو الأسس، أو المرتكزات المترسخة والمستقرة في ضمائر المجتمع، جاءت لتعزيز الوحدة الوطنية، وقطع الطريق أمام الذين يعبثون بوحدة الوطن ومكونات مجتمعه.

فالثوابت جمع مفرده ثابت فهو عكس المتغير لا يشمله أي تعديل أو إلغاء، وهي تلك المسلمات والمرجعيات التي يتوافق عليها الجميع، وتشمل مفاهيم الهوية والدولة والوطن والدين والمصلحة الوطنية، والتي يعتبر المساس بها‏ خطا أحمر، أدركته النفس البشرية السوية واستقرت عليه.

وتتضمن ديباجة الدستور ما يشد الأمة والمجتمع ويربطها إلى تاريخهما، وبالتالي فإن معظم ديباجات دساتير العالم تمهد لمتونها، فهي تعكس ثقافة المجتمع وتحفظ حضارته وهويته في قالب دستوري يوافق عنه الشعب أو من يمثله.

المؤسس الدستوري الجزائري كان واضحا عندما ارتقى بالديباجة إلى مستوى النص الدستوري في تعديل 2016، وجعل أحكامها ملزمة في وضع القوانين، حيث أكد في آخر الديباجة ” تشكل هذه الديباجة جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور”، ملاحظا أن هذه الديباجة تجعل الدستور الجزائري أكثر تطورا من الدستور الفرنسي، الذي تُعتبر فيه الديباجة مجرد مقدمة ذات طابع فلسفي.

وبالتالي جاء التعديل الدستوري الأخير ليرسم الهوية الوطنية في الديباجة القائمة على الثوابت الثلاث؛ الإسلام، العروبة، والأمازيغية، وتم لأول مرة دسترة الآليات التي تعتمد عليها الدولة لترقية مقومات الهوية الوطنية، على غرار المجلس الأعلى للغة العربية، المجلس الإسلامي الأعلى، وأكاديمية اللغة الأمازيغية، مع إلحاقها بمؤسسة رئاسة الجمهورية.

وبالتالي ومن خلال ذلك فالثوابت الوطنية هي نتاج تاريخ وحضارة وثقافة تجمع شعب واحد لوطن واحد، وهو ما ورد تأكيده في بيان أول نوفمبر ضمن الأهداف العامة([1]):

على أن الاستقلال الوطني لن يتم إلا بواسطة:

1 ـ إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.

2 ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.

ويمكن إجمال الثوابت الوطنية التي أقرها المؤسس الدستوري الجزائري في ديباجته في ما يلي:

أولا: الإسلام:

إنّ الجزائر، أرض الإسلام كما جاء في الديباجة وهو دين الدّولة([2])، كما لا يجوز للمؤسّسات العمومية أن تقوم بأي سلوك مخالف للخُلُق الإسلاميّ([3])، كما لا يمكن لأي تعديل دستوري أن يمس الإسلام باعتباره دين الدّولة([4]).

يتساءل البعض عن المادة الثانية في الدستور هل تعني انتماء الدولة إلى الأمة والحضارة الإسلاميتين التي تعدى عمرها 14 قرنا؟

عبارة يختلف الكثيرون في تأويلها، بين من يرى أنها مقتضى يحدد دين الأغلبية الساحقة، فليس بالضرورة أن “الدولة دينية”، فهناك من الدول الأوربية التي حاربت الكنيسة مثل النرويج والدانمارك وغيرها لديها في دساتيرها دين رسمي. فما المقصود إذن؟؟ فعبارة دين الدولة برأينا هو انتماء للحضارة وبالتالي لابد أن يكون مصدرا للتشريع والأنظمة.

صحيح أن الدولة تعتمد على قوانين وضعية في مجالات كثيرة عدا ما يتعلق بالأحوال الشخصية. فمعظم القوانين تختلف عن الشريعة رغم تنصيص الدستور على دين الدولة.

وقد تم تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى في الدستور لدى رئيس الجمهورية مهمته الحثّ على الاجتهاد وترقيته، وإبداء الحكم الشّرعيّ فيما يُعرَض عليه، ورفع تقرير دوريّ عن نشاطه إلى رئيس الجمهوريّة(5]).

ثانيا: العربية:

العربية هي أحد الثوابت الوطنية التي أقرها الدستور باعتبارها هوية وثقافة وفكر، إنها لغة القرآن الكريم، فنحن لو استبعدنا التعبيرات الوجدانية والايديولوجية في شأن الهوية كالوحدة العربية، فإننا علمياً وموضوعياً وتاريخياً نبقى أمام “ظاهرة عربية” حية لا يستطيع أن ينكرها أحد، ظاهرة عربية بشرية وجغرافية تنطق بلغة واحدة، وبالتالي ذات ثقافة مشتركة، لم تستطع أشد عصور التسلط في بعض الحقب أن تقضي عليها، كما سعى المستدمر الفرنسي في الجزائر في محاربتها بكل الوسائل، لكنه فشل.

فاللغة إذن هي ثقافة وفكر ووجدان، بل يرى كثير من علماء اللسانيات أن اللغة تمثل تصوراً للوجود وللعالم. وقد أصبحت اللغة في عصر العولمة رصيداً اقتصادياً هائلاً إن لم توجد فلا بد من إيجادها كوسيلة اتصال موحد، وينفق الأوروبيون اليـوم مبالغ طائلة على الترجمة الفورية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها شركاتهم التجارية ومؤسساتهم الاقتصادية لتجاوز تعدديتهم اللغوية. ويتمنى بعضهم لو حافظت أوروبا على لغتها اللاتينية القديمة الموحدة(6).

وباعتبار أن اللغة العربية ثابتا وطنيا تم إنشاء المجلس الأعلى للعربية وهي هيئة استشارية تحت إشراف رئيس الجمهورية، أنشئ بموجب المادة الخامسة من الأمر 96-30 بتاريخ 21 ديسمبر 1996، والمعدل للقانون 91-226 وحدّدت صلاحياته وتنظيمه وعمله بموجب المرسوم الرئاسي 226-98  المؤرخ في 11 جويلية 1998.

وقد حدّد الدستور في مادته الثّالثة أنّ المجلس هيئة دستوريّة تعمل على:

“ازدهار اللّغة العربيّة؛ تعميم استعمال العربيّة في ميادين العلوم والتّكنولوجيا؛ التّرجمة من اللّغات إلى العربيّة”.

ومن مهام المجلس أيضا، يعمل على تطبيق التشريع والتنظيم المتعلقين بتطبيق استعمال اللغة العربية في الإدارات والمؤسسات، والهيئات العمومية، ومختلف الأنشطة، لاسيما الاقتصادية والثقافية، والاجتماعية؛ وبالتالي يمكننا القول، إن اللغة العربية هي أساسا ثقافة وحضارة وليست عرقا أو سلالة؛ العربية الفصحى لغة واحدة وموحّدة لأقطار الوطن العربي وجامعة بين نخبه وشعوبه ومن دواعي التجانس والانسجام في أقطارنا مشرقا ومغربا؛ كذلك العربيّة ليست خصما للأمازيغية فقد تعايشتا معا في وئام لأكثر من ألف عام، وقد ساهم الأمازيغ في الفضاء المغاربي كلّه في علومها وثقافتها وإلى اليوم.

ثالثا: الأمازيغية:

هي أحد الثوابت الوطنية للشعب الجزائري، وقد بدأ الاعتراف بها منذ التعديل الدستوري لسنة 2002، عندما أقرت المادة الرابعة “تمازيغت هي كذلك لغة وطنيّة ورسميّة، وتعمل الدّولة لترقيّتها وتطويرها بكل تنوّعاتها اللّسانيّة المستعملة عبر التراب الوطني. يُحدث مجمّع جزائري للّغة الأمازيغيّة يوضع لدى رئيس الجمهورية. يستند المجمّع إلى أشغال الخبراء، ويكلّف بتوفير الشروط اللاّزمة لترقية تمازيغت قصد تجسيد وضعها كلغة رسميّة فيما بعد”.

ومن خلال ذلك تم استحداث الأكاديمية الجزائرية للغة الأمازيغية، وخصصت لهذه اللغة حيزاً من الإعلام الرسمي، وذلك بإنشاء قناة تقدم أخبارا وبرامج ثقافية واجتماعية …

فبعد سنوات من النضال السلمي من أجل الإعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية، جاء التعديل الدستوري لسنة 2016، ليضفي طابع اللغة الرسمية للأمازيغية بعد أن اعتمدت لغة وطنية سنة 2002، إلا أن الجدل ما يزال قائما حول مكانة هذه اللغة في الدستور، والآثار المترتبة عن الإعتراف بها كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، وبهذا تكون الجزائر قد تبنت الثنائية اللغوية مثل العراق وكندا.

وقد أكد المجلس الدستوري في قرار له أن اعتبار اللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية والعمل على توفير شروط ترقيتها تصب في إطار حماية وترقية مكونات الهوية الوطنية (7).

في ختام هذا المقال لابد من إثارة نقطة مهمة وهي أنّ قيمة أي دستور أو أي ميثاق أو أي عهد في العالم لا يَكمُن فقط في قوّة مبادئه أو نصوصه، أو معانيه فقط، وإنّما يَكمُن أيضًا في قوّة الالتزام بعهوده، خاصة بصدور القوانين والتنظيمات اللازمة لما أكد عليه الدستور، حتى لا تبق نصوصه عامة بعيدة عن الواقع، خاصة ونحن نتحدث عن الثوابت الوطنية التي لا تقبل التغيير ولا تقبل الجمود وهي مستقرة في ضمائر المواطنين تنتظر صدور قوانين وتنظيمات لتجسدها على أرض الواقع.

 

 

الهوامش:

1) ديباجة الدستور الجزائري المعدل بالقانون رقم 16-01 المؤرخ في 06 مارس 2016 الجريدة الرسمية رقم 14 المؤرخة في 7 مارس 2016.

2) المادة الثانية من الدستور الجزائري المعدل في 2016.

3]) المادة 10 من الدستور الجزائري المعدل في 2016.

4) المادة 212/3 من الدستور الجزائري المعدل في 2016.

5) المادة 195 من الدستور الجزائري المعدل في 2016.

6) محمد جابر الأنصاري: العروبة ليست ايديولوجيا… إنها واقع حي. جريدة الحياة اللندنية مقال منشور بتاريح: 2003-10-24.

7) رأي المجلس الدستوري رقم 01-16 ر.ت د/م مؤرخ في 28 جانفي 2016 يتعلق بمشروع القانون المتضمن التعدي الدستوري (ج ر رقم 6 سنة 2016).

 

عن amara

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: