بقلم :الدكتور محمد عمر حساني
أي كلمات تلك التي يسعفني بها بحر البيان الخضم، لأعبر لكم بها عن عميق ما أستشعره، وعظيم ما أجده بين جوانحي، من سعادة غامرة وفرحة عارمة، وأنا أقف أمامكم في هذا اليوم المشهود العاطر بأريج أهل العلم والشذي بعبق التاريخ الوطني حيث يوافق عيد النصر المجيد، في افتتاح هذه الطبعة المشهودة من الملتقي الدولي العامر للسيرة النبوية العطرة في طبعته السابعة، نتفيأ ظلال العلم الشرعي الشريف، وننهل من الرحيق المعرفي المنيف، واغترفنا وارتشفنا من الهدي النبوي الشريف، نرتوي من نميره في رحاب الجلسات العلمية المباركة، التي تقاطرت لأجلها على هذه البلدة المضيافة، ثلة من خيرة أهل الفكر والاختصاص، في مراكز البحث والإشعاع والتنوير، في عالمينا العربي والإسلامي، من خارج الوطن المفدى ومن داخله، فلبوا الدعوة وتجشموا وعثاء السفر ومشاقه، يحدوهم شغف الروح لخدمة الحق في أي من ديار الإسلام، ولهفة النفس لتبيين ما يزين هذا الدين من فكر وعقيدة، فكان فضلهم للقلوب ءاسرا ، والنفوس بالحظوة بينهم ومعهم زاهية، فلكم سادتي صادق التحية وجزيل الشكر وبالغ التقدير، والأفئدة والقلوب ابتهجت و فتحت أبوابها للترحيب، فرحا بمقدمكم وبشرا وسعادة بحضوركم
قد بشرت بقدومكم ريح الصبا **** أهلا بكم يا زائرين ومرحبا
واستنشقت أرواحنا أرج اللقا **** يا حبذا عرف الزيارة أطربا
ينعقد ملتقانا في طبعته السابعة، وقد توخى القائمون عليه في اختيار عنوانه ومحاوره، أكثرها بالواقع التصاقا؛ بغية التوصل لحلول وإجابات لأشد أسئلتها إلحاحا، لتجنب مآزقها والخروج من مضايقها، فكان عنوان ملتقانا حول:”المنهج النبوي في مواجهة أسباب التشدد بالتنمية المستدامة” ليسلط الضوء على معضلة حقيقية من معضلات العصر والزمان، وما جناه التشدد والتطرف والغلو على كثير من المجتمعات، فصير بنيانها خرابا، وأرضها يبابا، وأمنها واستقرارها سرابا، بعدما كانت ترفل في أثواب الطمأنينة والهناء، مما حتم هبة معرفية ويقظة فكرية لمحاصرة الظاهرة، وتجفيف منابعها الفكرية التي تتغذى منها، وفضح ترهاتها ومغالطاتها بل واستئصال شأفتها بسيف من الحق قاطع، وبرهان معرفي علمي منهجي ساطع، ومما زاد الأمر تعيينا علينا كمسلمين، ربط كثير من دوائر القرار لمظاهر التشدد والتطرف، وما نجم عنها من إرهاب بالدين الإسلامي الحنيف، مما استدعى أخذ الأمر بعزم وحمله على محمل الجد.
وهنا يشرفني أيما تشريف أن أستحضر وأورد على مسامعكم مقطعا من رسالة فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة انعقاد الدورة الخامسة والثلاثين لمجلس وزراء الداخلية العرب المنعقدة بالجزائر في 07 و08 مارس 2018 حيث يقول فخامة الرئيس :” في سياق ذي صلة يأتينا من نقاشات تنظم حول موضوع الإرهاب هنا وهناك، أن بعض مضامينها السلبية تطال الدين وتقع في خطإ فادح يربط الإرهاب بالديانات، وبالأخص عندما تربط هذه الظاهرة المقيتة بالدين الإسلامي الحنيف، الذي هو دين السلم والأمن وقبول الآخر والحاضن للجميع في ظل الاحترام المتبادل والتعايش بين بني الإنسان، إن إلصاق الإرهاب بالإسلام الحنيف ظلم وعدوان غير مقبول، والإسلام من الإرهاب براء، والإرهاب ليس له دين ولا وطن ولا حدود.
علينا أن نهيب بالعلماء والمرجعيات الدينية، ومراكز البحث الأكاديمي أن يعملوا على تجديد الخطاب الديني وتخليصه من الشوائب التي علقت به، وتحرير الفتوى من قبضة أشباه الفقهاء، وحماية الإسلام ممن يحاولون احتكاره. فالعمل يبدأ من الداخل أولا، مع العمل تجاه الآخر الذي كرس صورة نمطية عن ديننا السمح، فربطها بالتحجر والتطرف والإرهاب، وكل ذلك مغالطات وجب تصويبها وتصحيحها.”
أيها السادة الكرام لعلكم تتفقون بل وتجمعون أن هذه الكلمة تمثل تصورا واضحا لإشكالية الملتقى الرئيسية، فلامناص من اعتمادها كأرضية لأعمال ملتقانا المبارك، حيث كانت بالحق ناضحة، ولسجوف المارقين هاتكة فاضحة، وهي ليست بالبدع من القول أو بالغريب في البيان، عن رجل لطالما كرست مواقفه وكلماته قناعات واضحة ورؤية ثاقبة، تنم عن شخصية حريصة في الدفاع عن مقومات الهوية الوطنية، ورسم معالمها والذب بصلابة عن حياضها، إن فخامة رئيس الجمهورية لطالما كان صوت الحكمة، والمدافع القوي عن صفاء ونقاء الدين الإسلامي الحنيف، الذي كان ولا زال وسيظل من خلال قرءاننا بإذن الله، كما قال فخامته الإسمنت الذي حفظ لهذه الأمة وحدتها، وهنا أستسمحكم إن كنت أطلت عليكم، في العودة بكم إلى خطاب فخامته الذي ألقاه في افتتاح الملتقى الدولي حول التفاهم بين المذاهب الإسلامية، المنعقد بالجزائر أيام 25و26و27 مارس سنة 2002 حين قال: “والجزائر أيها الملأ الكريم، التي كانت ومازالت معقلا للإسلام الحنيف، قد اكتوت أكثر من غيرها، وكابدت ويلات الإرهاب الدنيء، هذا الإرهاب المستغرق للتعصب، والمتحالف مع الجريمة والانحطاط، والتخلف في العالم، إذ هو اليوم يهدد العالم كله، ولا يستهدف دولة دون أخرى، أو شعبا دون غيره، وليس حكرا على منطقة بعينها، فالتعصب والإرهاب ليس في شرعتهما استثناء.” إلى أن يقول فخامته: ” إن عقد بيع جديد مع الإسلام الصحيح، من منظر رؤية علمية صحوانية، من شأنه أن يلاقي بين وعي الذات الإسلامية، ولحظة الإبداع التاريخي، فيحدث تلك الطفرة التي عرفها التاريخ خلال البعثة النبوية المباركة، وهكذا تتصالح الأمة مع تاريخها، وتعيد تأسيس ذاتها في السياق النهضوي المرتقب.”
أيها السادة الكرام؛ إن الإسلام هو دينُ فاطر الأرض والسماوات. الذي آتَى الروحَ معراجَها، وهدَى البريَّة أدراجَها، وأحلَّها من الحضارات والعلوم شُمَّ أبراجها، وكان لها في آفاق المجد والخُلد ضياءَ سِراجِها، ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138] الإسلام ولا غير، الذي يحسِمُ شِرَّة الخُطوب والكُروب، وينتشِلُ الإنسانيَّة من أوهاقِ البغضاء والشَّحناء إلى مراسِي التوافُق والصفاء، والسِّلم والوفاء، يقول – جل وعلا -: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، ويقول – جل وعلا:- ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
ولقد دلَّت وقائِعُ السيرة النبوية والفُتُوحات الإسلاميَّة على أن الدِّعامةَ الأُولى والأساسَ لانتِشار الإسلام: الدعوةُ بالحُسنَى، والموعِظة البلِيغَة، والكلمةِ الطيِّبة، والمُعاملةِ الحسنة حتى في أوقاتِ الحربِ والقتالِ.
روى الإمامُ مُسلمٌ في “صحيحه” مِن حديثِ بُريدة بن الحُصَيب – رضي الله عنه – قال: كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سرِيَّة، أوصَاه في خاصَّتِه بتقوَى الله ومَن معَه مِن المُسلمين خيرًا، ثم قال: « اغزُوا ولا تغُلُّوا، ولا تَغدِرُوا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تَقتُلُوا وَلِيدًا ولا امرأة».وفِي رِوايةٍ: « ولا تُحرِقُوا كَنِيسةً، ولا تَعقِرُوا نَخلًا».
الله أكبر! بهذه الألفاظ مِن دُرر الخُلُود، وهذه الحَبَّات مِن نفَحَات القُدس الشُّهُود، فاضَت الوصايَا المُحمديَّة العِظام بمجامِعِ الرحمة، وزخِرَت بمعاطِف الرَّأفَة. فأيُّ سلامٍ أعَمُّ وأشمَلُ وأجمَلُ، وأروَعُ وأبهَى وأكمَلُ مِن هذا السلام الذي يعُمُّ الكَونَ بكائِناتِه وجَماداتِه ونباتاتِه؟ فهل رأَت الدنيا، وسمِعَ التأريخُ بمبادِئ ومُثُلٍ أخلاقيَّةٍ وسُلوكيَّةٍ أشمَلَ وأكمَلَ مِمَّا جاءَ به الإسلام؟! فهل يعِي ذلك دُعاةُ العُنف والتشدد والإرهاب؟!
أيها الجمع الكريم من هذه المنطلقات وغيرها سيعكف الباحثون طيلة يومي الملتقى لتبيان حقائق ديننا الإسلامي الحنيف المرتبطة بموضوع الملتقى ومحاوره والخروج بتوصيات من شأنها رسم معالم خطة مستقبلية على مختلف الأبعاد لإرساء معالم للحد من التشدد في إطار تنمية مستدامة شاملة لكل مناحي الحياة من خلال السيرة النبوية العطرة حيث يجدر التنبيه في هذا المقام ان انطلاقة الملتقى الأولى كانت مرتبطة مع شهر المولد النبوي الشرف المناسبة العزيزة على قلوبنا لتكون مددا وسندا نورانيا ربانيا محمديا لهذا الملتقى وهي علامة قبول وتوفيق .
الكلمة الافتتاحية للدكتور محمد عمر حساني مدير الشؤون الدينية والاوقاف ورئيس الملتقى الدولي السابع للسيرة النبوية ، المنعقد بورقلة يومي 01 و02 رجب 1439هـ الموافق 19 و20 مارس 2018م.